المكتب التنفيذي القوة الكامنة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المكتب التنفيذي القوة الكامنة, اليوم الثلاثاء 25 مارس 2025 12:32 صباحاً

نسبة كبيرة في عالمنا العربي مستغربة من الصلاحيات وقدرة ترامب على تغيير قواعد اللعبة السياسية داخليا وخارجيا مستخدما القرارات الرئاسية، كيف يملك كل تلك القدرة في ظل نظام سياسي ديمقراطي يفصل السلطات. لكن الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون هي أن هذه الصلاحيات ليست استثناء، بل انعكاس لما منحه الدستور الأمريكي للرئيس منذ أكثر من قرنين من الزمن. قوة المكتب التنفيذي تمثل جوهرا في النظام السياسي الأمريكي، وهي نتيجة لتوازن دقيق بين الحاجة إلى قيادة قوية وخطر الاستبداد.

عندما اجتمع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في صيف عام 1787م، كانت لديهم تجربة مريرة مع نظام حكم استبدادي رفض أن يكون هنالك ممثلون للولايات في البرلمان البريطاني تحت سلطة الملك جورج الثالث، وفي الوقت نفسه كانت لديهم تجربة فاشلة مع نظام ضعيف من دون رئيس تنفيذي حقيقي في ظل مولد مواد الاتحاد. الدرس كان واضحا: لا يمكن لدولة أن تستمر وتزدهر دون وجود قائد تنفيذي قوي يمكنه اتخاذ القرارات الحاسمة في أوقات السلم والحرب، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون مطلق الصلاحيات.

في المادة الثانية من الدستور الأمريكي، وُضِع الأساس لهذه المعادلة الدقيقة. «السلطة التنفيذية تُمنح لرئيس الولايات المتحدة». هذه العبارة تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طياتها قوة كبيرة وصلاحيات واسعة غير محددة بدقة. على عكس المادة الأولى التي تتناول صلاحيات الكونغرس وتفصلها بشكل محدد، جاءت المادة الثانية لتمنح الرئيس مجالا واسعا للتصرف، وهو ما ظهر جليا خلال حكم دونالد ترامب.

الرئيس الأمريكي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. هو من يحدد الاستراتيجية العسكرية، ويضع السياسات التي تتحرك من خلالها الولايات المتحدة على الساحة الدولية. هو الذي يعين السفراء ويتفاوض على المعاهدات ويرسم الخطوط العامة للسياسة الخارجية، ويوظف أكثر من 4000 شخص في مناصب سياسية في الحكومة الفدرالية لتنفيذ أجندته. وعلى المستوى الداخلي، يملك سلطة تعيين الوزراء وقضاة المحكمة العليا، ما يجعله مؤثرا في القضاء أيضا. وفوق ذلك كله، يتحمل مسؤولية تنفيذ القوانين، مما يضع تحت إمرته الجهاز الإداري الفيدرالي بأكمله.

ترامب ومستشاروه، بفهمهم العميق لهذه الصلاحيات، استخدمها ببراعة. اعتمد بشكل مكثف على الأوامر التنفيذية لإحداث تغييرات سريعة في السياسة دون انتظار تعقيدات العمل التشريعي في الكونغرس. من خلال تعيين القضاة المحافظين في المحكمة العليا، ضَمِن وجود تأثير طويل الأمد على النظام القضائي الأمريكي. وفي السياسة الخارجية، لم يتردد في الخروج من الاتفاقيات الدولية أو إعادة التفاوض بشأنها، كل ذلك ضمن صلاحياته الدستورية.

لكن الدستور الأمريكي لم يترك الرئيس بلا قيود. الكونغرس يمتلك ما يُعرف بـ«سلطة المال». لا يمكن للرئيس تنفيذ خططه دون موافقة الكونغرس على الميزانيات اللازمة. إذا أراد الرئيس تمويل جدار حدودي أو إطلاق حرب أو حتى شراء مستلزمات للمكاتب الحكومية، فعليه أولا الحصول على موافقة الكونغرس. وهنا يظهر جانب آخر من التوازن: القوة التنفيذية الواسعة في مقابل رقابة مالية صارمة.

وفي مجال السياسة الخارجية، رغم أن الرئيس يحدد الاتجاه العام ويقود المفاوضات، إلا أن الكونغرس وحده يمتلك حق إعلان الحرب، ومجلس الشيوخ لا بد أن يصادق على المعاهدات بأغلبية الثلثين. هذا التوازن الدقيق يمنع تغول السلطة التنفيذية ويضمن مشاركة السلطتين التشريعية والتنفيذية في القرارات المصيرية.

وفي حالة وقوع مخالفات جسيمة، يمتلك الكونغرس سلطة محاسبة الرئيس عبر إجراءات العزل (impeachment)، والتي تطبق في حال ارتكابه جرائم خطيرة كالرشوة أو الخيانة أو غيرها من الجرائم الكبرى. لكن من الملاحظ أن معايير العزل وضعت لتكون صعبة التحقيق، حماية لاستقلالية الرئيس ومنعا لتحول الكونغرس إلى أداة لابتزاز الرئيس سياسيا.

وعلاوة على ذلك، جعل الدستور الأمريكي الرئيس مسؤولا أمام الشعب. كل أربع سنوات، يذهب الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم. هذه الآلية تمنح الشعب الكلمة العليا، وتجعل الرئيس دائما تحت ضغط الأداء الجيد وإلا فالعقاب الانتخابي ينتظره. وهذا ما رأيناه في حالة ترامب نفسه، الذي ورغم استخدامه الواسع لصلاحياته، كان دائما تحت مجهر الإعلام والرأي العام.

لكن واضعي الدستور كانوا حذرين من أن تتحول الديمقراطية المباشرة إلى فوضى. لذلك ابتكروا نظام المجمع الانتخابي (Electoral College)، الذي يضمن ألا تكون الانتخابات الرئاسية رهينة لنزعة الأغلبية العابرة، بل تحكمها ضوابط توازن بين الولايات الصغيرة والكبيرة، وبين القوى المختلفة داخل الاتحاد.

في النهاية، الرئيس الأمريكي هو أقوى رجل في العالم، لكنه ليس فوق القانون ولا فوق الدستور. ترامب، بقدرته على اتخاذ قرارات حاسمة وتغيير المسار السياسي، كان يستمد قوته من تصميم دستوري دقيق، وليس من سلطة مطلقة. المادة الثانية من الدستور الأمريكي جعلت من الرئيس شخصا قادرا على قيادة العالم، لكنها في الوقت نفسه وضعته تحت رقابة الكونغرس والشعب والقضاء.

إن فهم هذه المعادلة يفسر لنا لماذا يستطيع رئيس مثل ترامب أن يُغيّر قواعد اللعبة، ولماذا في الوقت نفسه تبقى سلطاته محدودة ومحكومة بإطار واضح من التوازنات. الرئيس الأمريكي قوي، لكنه ليس أقوى من الدستور. هذه هي عبقرية النظام الأمريكي، وهذه هي المعادلة التي تحمي الولايات المتحدة من خطر الطغيان وتمنحها في الوقت نفسه القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في لحظات مصيرية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق