كيف تصنع اللغة الثانية نسخة جديدة منك؟

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كيف تصنع اللغة الثانية نسخة جديدة منك؟, اليوم الثلاثاء 7 يناير 2025 08:29 صباحاً

نقطة تحول تسطرها الحروف
يقال إن تعلم لغة جديدة يعني امتلاك عقل جديد، ولعل هذا القول ليس مجرد استعارة بل حقيقة عميقة. عندما تبدأ تعلم لغة ثانية، لا تقف عند حدود اكتساب المفردات والقواعد، بل تفتح بابا نحو عوالم غنية بالثقافات والأفكار المتنوعة.

يبدأ التحوّل الكبير حين تتسلل اللغة الجديدة إلى حواراتك الداخلية، فتعيد رسم ملامح شخصيتك وتفكيرك، وتضيء زوايا خفية من ذاتك، كأنما مُنِحْتَ عينا جديدة ترى بها العالم بصورة مختلفة.

ملاذ العقل أمام زحف النسيان
كشفت دراسة أجرتها جامعة إدنبرة أن من يفتحون أبواب عقولهم لاستقبال لغات جديدة، يؤخرون زحف أمراض الشيخوخة مثل الخرف والزهايمر بمعدل 4,5 سنوات، مقارنة بمن يبقون خلف أسوار لغتهم الأم. (Journal of Neurology).

نداء يخترق حدود الزمان والمكان
تحتضن صفحات التاريخ قصصا لأشخاص شكلت اللغات محور تحولاتهم. حين امتلك غاندي مفاتيح الإنجليزية خلال دراسته بين ربوع بريطانيا، استطاع أن يبعث بنداء الحرية والسلام عبر أصقاع المعمورة، ممهدا بهذه الرسالة الإنسانية الطريق أمام حركات حقوقية غيّرت وجه العالم أجمع. (Gandhi: An Autobiography).

ثلاث إشراقات تعيد صياغة الحياة
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن للغة ثانية أن تترك بصمتها على شخصية متعلميها؟ في الواقع إن تعلم لغة ثانية ليس مجرد درس أكاديمي، بل نافذة تطل منها الروح على عوالم أخرى، تتغير معها طريقة التفكير وحتى ألوان الأحلام. بين طيات هذه الرحلة الغنية، تبرز بنظري ثلاث فوائد جوهرية تحمل بصمة الإلهام:

1- تعميق الثقة بالذات: خطوة تردد تصنع ألف إنجاز
التحدث بلغة ثانية يعني أن تعيد كتابة قصتك بلون جديد. كل عبارة جديدة تنطلق من شفتيك أشبه بانتصار صغير على التردد والخوف، وكل لقاء مع الآخر يغدو فرصة لرؤية نفسك من منظور مختلف. هذا التحدي رحلة مليئة بالمغامرات الصغيرة، حيث تصبح الكلمات أدوات لتعزيز الثقة وإشعال شغف التواصل مع العالم من حولك.

بحسب تقرير المفوضية الأوروبية لتعلم اللغات، أكد ما يزيد على (43%) من الطلاب أن تعلم لغة ثانية جعلهم أكثر تقبلا وانفتاحا على ثقافات جديدة، مما عزز لديهم فهما أعمق للتنوع الإنساني والحضاري.

(European Commission Language Learning Report).
أما على الصعيد الأكاديمي، أوضح تقرير صادر عن مجلس تدريس اللغات الأجنبية الأمريكي أن الطلاب الذين يدرسون لغات إضافية، يحققون أداء أفضل في الاختبارات القياسية مثل SAT، مقارنة بأقرانهم ممن لم يخوضوا تجربة تعلم لغات أخرى، ما يعكس بوضوح أثر تعلم اللغات على تنمية القدرات العقلية والتحصيل الأكاديمي.
(American Council on the Teaching of Foreign Languages).

2- إثراء منظور الحياة: نافذة على العالم
ما أشبه تعلم لغة جديدة باكتشاف مدينة غامضة لم تطأها قدمك من قبل، تدخلها متوجسا وبرأسك ألف سؤال وسؤال، ثم تكتشف أسرارها وأزقتها، فتتشكل داخل ذهنك صور نابضة تغذي عقلك وروحك.

رويدا رويدا، تتبدل طرائق تفكيرك، وتزداد حماستك لقبول الاختلافات الثقافية وفهم قيم الآخرين. بدراسة أعدتها جامعة شيكاغو تبين أن من يتقنون أكثر من لغة يميلون لاتخاذ قرارات أكثر عقلانية حين يفكرون بغير لغتهم الأم.

بأواخر عام 2022، حين فتحت قطر أبوابها لاستضافة كأس العالم، وجد الوافدون من شتى أقطار الأرض وجها عربيا وإسلاميا مختلفا عمّا صوّرته وسائل إعلامهم. وقفوا مأخوذين أمام نداء الأذان في المآذن، وشهدوا التقدير الواضح للمرأة وسط كل المحافل، ولمسوا الأمان يحيط بهم في الدروب والساحات، وكرم شعب معطاء احتفى بهم بتقديم التمور والقهوة العربية مجانا، واستقبلهم بحفاوة وبشاشة منقطعة النظير.

أخال أن قطر نجحت بتقديم الثقافة العربية والإسلامية بصورة بديعة متحررة من كل التصورات المسبقة، فكان ذاك العرض تجسيدا عفويا لحسن الضيافة، وأبلغ رسالة تبرز مكنونات هذه الثقافة ورفعتها في عيون العالم.

3- اكتساب صفة المرونة: اللغة تمنحك مفاتيح التكيف
لك أن تتخيل كيف يشبه تعلم لغة جديدة دخولك إلى مسرح غريب، حيث يدعوك كل شيء لاكتشافه وسبر أغواره. اللغة العربية تحديدا،

بموسيقية حروفها وبراعة قواعدها تمثل خشبة مسرح مهيبة. حين يقبل طالب من اليابان أو كوريا أو فيتنام على هذا التحدي، يواجه لأول مرة حروفا تستدعي جهدا عضليا مثل الحرف «ع» و«ق»، وجملا تُبنى بمنطق مختلف عن لغته، يبدو كأنه يعيد رسم خريطة أفكاره.

ومع كل محاولة لفهم الجملة، أو كتابة حرف من اليمين إلى اليسار، يختبر المتعلم تغيرا فكريا، يتجاوز اللغة نفسها ليصل إلى طريقة تفكيره نفسها، ويستحثه على تغيير زاوية النظر، فتصبح العربية أكثر من مجرد لغة، بل مفتاح لفكر أكثر مرونة وإبداعا وقدرة على التكيف.

حكايات من الفصول الدراسية: لغة تعيد تشكيل المسار
أثناء خوضي غمار تعليم العربية للناطقين بغيرها، كنت شاهدة على قصص حقيقية أرتني كيف غيّرت اللغة الثانية «اللغة العربية» حياة طلابي للأبد. تتعدد دوافع الأجانب لتعلم العربية؛ فبعضهم يسعى إلى دخول سوق العمل في الشرق الأوسط، حيث تظهر الإحصائيات أن (60%) من أصحاب الأعمال يفضلون توظيف موظفين يجيدون أكثر من لغة واحدة، خاصة ضمن مجالات العلاقات الدولية والتسويق؛ وبعضهم الآخر ينغمس بدراسة العربية لفهم عمق الثقافة العربية والإسلامية، أو لاستكشاف القرآن الكريم من منبعه الأصلي.

الطالبة الأمريكية: من طموح وظيفي إلى تجربة استثنائية
بدأت طالبة أمريكية رحلتها مع العربية بنية العثور على فرصة عمل ضمن دول الشرق الأوسط. لكن بدلا من محاولة الوصول مباشرة إلى سوق العمل، وجدت نفسها مأسورة بسحر اللغة وثقافة شعوبها، فقررت إنشاء صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق تجربتها في تعلم العربية والمغامرات التي خاضتها أثناء السفر. بفضل محتواها الجذاب وتفاعلها المستمر مع المتابعين، تحولت تلك الصفحة إلى مصدر دخل رئيسي لها. هذه القصة تعكس كيف يمكن للغة أن تكون بداية لفكرة إبداعية تغير مسار حياة الفرد بطرائق غير متوقعة.

الطالب الفنزويلي: من صحفي إلى سفير ثقافي
شاب فنزويلي يعمل صحفيا داخل بلده، لكن شغفه بالاستكشاف قاده إلى ما وراء حدود لغته وثقافته. قرر الانخراط ضمن المجتمع العربي، فالتحق بمجموعة من الشباب العرب وصار يخرج بصحبتهم كل يوم تقريبا. بادئ الأمر لم تسعفه مفردات اللغة المحدودة لديه، فاستنجد بمحبوب الملايين «جوجل» الذي سارع لنجدته، كما أخبرني حين سألته «كيف تمكنت من التواصل معهم بنجاح، وأنت ما تزال في بداية تعلمك للعربية؟».

مع مرور الوقت أتقن اللهجة المحلية وأصبح أكثر دراية بتفاصيل الثقافة العربية، ما أكسبه فهما أعمق لجوهرها وخصوصيتها. هذه التجربة لم تكن محض رحلة لتعلم لغة جديدة، بل محطة مفصلية غيرت مسار حياته وتركته أكثر انفتاحا ونضجا. عاد إلى بلده محملا بحكايات وتجارب ملهمة جعلته يعيد صياغة رؤيته للعالم.

بدأ بكتابة مقالات تعكس شغفه بالثقافة الإسلامية والعربية، مستعرضا جمالها وعمقها الحضاري، ومكرسا جهوده لإزالة الفجوات الثقافية وتصحيح الصور النمطية الشائعة حولها آنذاك بين شعوب أمريكا اللاتينية. لم تكن تلك المقالات مجرد كلمات عابرة على الورق، بل بمثابة جسور متينة تمتد لتحقيق التفاهم والتقارب، نقل عن طريقها صورة حقيقية ومشرقة لثقافة ألهمت عقله، وأسرت قلبه، ومنحته فرصة تكوين الكثير من الأصدقاء.

لطالما كان إتقان اللغة مفتاحا لتعزيز الروابط الإنسانية وتوطيد العلاقات بين الشعوب. على سبيل المثال، تميزت الملكة إليزابيث الأولى بإتقانها عدة لغات، من بينها اللاتينية والفرنسية والإيطالية، مما أتاح لها فرصة بناء علاقات دبلوماسية راسخة مع دول أوروبية خلال فترة حكمها. (Elizabeth I: The Shrewd Queen).

الطالب التايلاندي: من البطالة إلى ريادة السياحة الخليجية
طالب تايلاندي عانى معوقات البطالة، فتحدى واقعه الصعب عن طريق تعلم اللغة العربية ليعيد صياغة مستقبله. بعد عودته إلى بلده، أسس فرعا للسياحة الخليجية، مستثمرا إتقانه للغة لتلبية احتياجات السياح العرب من أطعمة حلال تناسب أذواقهم وتوافق تعاليم دينهم، إلى خدمات تنسجم مع ثقافتهم وتقاليدهم. تجربته الفريدة تلك تعكس بوضوح كيف يمكن للغة أن تكون نافذة نحو آفاق جديدة وأداة لتحقيق نجاح استثنائي.

في ثنايا هذه القصص إشراقة أمل تؤكد أن تعلم لغة جديدة يمكن أن يتحول إلى مفتاح لكنوز من الفرص، ومصدر للإنجاز والدخل، متى أحسن استخدامها وأجيد استثمارها.

وهنا ينبثق تساؤل آخر: هل تتغير الشخصية مع تعلم لغة أخرى؟

أولا: اللغة نافذة على الثقافة
اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل مرآة تعكس روح الثقافة وقيم المجتمع الذي تنتمي إليه. تحمل كل لغة بين طياتها ملامح فريدة من حياة شعبها، وحين يشرع المرء بتعلم لغة جديدة، فإنه يتبنى معها جزءا من تلك الثقافة.

في التحية والوداع كمثال حي، تظهر الفروقات الثقافية جليا. التحية العربية فعل ينبض بالحميمية والتواصل الإنساني، حيث يسأل المتحدث عن أحوال الفرد وأسرته، ويعبر عن طلبه بأسلوب مشبع باللطف والحياء. في المقابل، التحية الغربية مختصرة ومباشرة، تركز على الغرض الأساسي دون الغوص بالتفاصيل الشخصية.

هذا التباين يستلزم من الطالب الغربي تعديل طريقة تواصله ليواكب نمط التعامل العربي. لهذا لا تُدرَّس اللغة العربية بمعزل عن ثقافتها، إذ يحرص الأساتذة على تضمين المكونات الثقافية العربية والإسلامية، لتجنب أي سوء فهم قد يعوق التواصل أو يحد من استيعاب الطلاب الأجانب لهذه اللغة بكل أبعادها.

ثانيا: اللغة بوابة لفهم الذات
تعلم لغة جديدة يفتح نافذة مختلفة على الذات. فجأة يصبح التعبير عن الأفكار والمشاعر رحلة استكشاف، حيث يكتشف الإنسان أن للغة الجديدة طريقة خاصة في كشف الجوانب الخفية من شخصيته. في الثقافة العربية مثلا، الحميمية جزء لا يتجزأ من التواصل، مما يدفع المتعلم أثناء محاولته التكيف مع هذا الطابع الدافئ، إلى الغوص في أعماق شخصيته ليخرج أفضل ما لديه تعبيرا عن ذاته وهويته.

السفر أيضا يلعب دورا محوريا في هذا التحول. كثير من الطلاب الأجانب الذين زاروا دولا عربية مثل قطر ومصر لاحظوا هذا الأمر. من خلال تجربتي بمجال التدريس، لاحظت أنهم غالبا ما يجدون أنفسهم متعلقين بالدفء الإنساني، والعلاقات العائلية الوثيقة، والكرم الصادق الذي يميز هذه المجتمعات. لدرجة أن البعض منهم يجدون صعوبة في مغادرة هذه الدول عند انتهاء فترة دراستهم، لأنهم ببساطة وجدوا ما يفتقدونه في ثقافتهم الأصلية.

كيف تجعل رحلتك مع اللغة الثانية أكثر عمقا وثراء؟

  1. التفاعل مع المتحدثين الأصليين: الاحتكاك المباشر مع أهل اللغة يسرّع من تحسين الطلاقة ويمنح المتعلم شعورا بالاندماج الحقيقي. وكما قال نيلسون مانديلا «إذا أردت أن تفهم شعبا، تعلم لغته».
  2. السفر والانغماس الثقافي: زيارة البلدان الناطقة باللغة الثانية تنقل عملية التعلم من النظرية إلى الواقع، حيث يتحول كل موقف يومي إلى فرصة للتفاعل وتطبيق المعرفة المكتسبة، مما يمنح المتعلم فهما أوسع للغة وسياقها الثقافي.
  3. استكشاف الأدب والفنون: حين ينغمس المتعلم في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام، وسماع الأغاني باللغة الجديدة، فإنه لا يكتسب أفقا أرحب لفهم روحها، بل يتفاعل مع عوالم ثقافية غنية تغذي إحساسه بجماليات اللغة، وتمنحه ذوقا لغويا متقدما.
رحلة اللغة: نافذة نحو الذات والعالم
تعلم لغة ثانية يشبه اكتشاف جزء جديد من نفسك، جزء لم تكن تعلم بوجوده قط. هذه التجربة الاستثنائية تتجاوز حدود التعلم التقليدي لتصبح مغامرة ملهمة تغني روحك، وتملأ حياتك بعلاقات جديدة وتجارب تبقى حاضرة في تلافيف الذاكرة.

مع كل كلمة تكتسبها، تتوسع رؤيتك وتصبح أكثر تناغما مع التنوع الذي يثري العالم من حولك. إن كنت على وشك الشروع برحلة تعلم لغة جديدة، فتذكر أن كل كلمة تضيفها إلى رصيدك اللغوي بذرة تنمو وسط حديقة حياتك، لتثمر تنوعا وثراء لا يعرف سقفا ولا حدودا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق