3 سيناريوهات «ترامبية» لحل أزمة قناة بنما

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. أيمن سمير

فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم عندما طالب باستعادة قناة بنما في خطابه أثناء أدائه اليمين القانونية، وهو ما كشف عن جدية وصرامة كبيرة من الرئيس السابع والأربعين للسيطرة على قناة بنما التي اتهم الصين بالسيطرة عليها، وسبق له أن أثار عاصفة من الجدل والسجال السياسي والقانوني في 22 ديسمبر الماضي عندما رفض استبعاد الخيار العسكري لاستعادة القناة التي كانت تحت السيطرة الأمريكية لمدة 85 عاماً حتى عام 1999. وقال ترامب في كلمته بعد أدائه القسم داخل مبنى الكابيتول «لقد أعطيناها لبنما، وسوف نستعيدها مرة أخرى، لقد تعرضنا لمعاملة سيئة للغاية بسبب هذه الهدية الحمقاء التي كان لابد من عدم تقديمها مطلقاً، لقد نكثت بنما بعهدها لنا، وتم انتهاك الغرض من الاتفاقية وروح المعاهدة بشكل كامل، فالسفن الأمريكية تُفرض عليها رسوم باهظة للغاية، ولا يتم معاملتها بشكل عادل بأي طريقة ولا شكل، بما في ذلك البحرية الأمريكية». لكن ما لفت الأنظار في خطاب ترامب حول قناة بنما قوله «فوق كل شيء، تدير الصين قناة بنما، ونحن لم نعطها للصين، لقد أعطيناها لبنما، وسوف نسترجعها مرة أخرى».


كلمات ترامب دفعت الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو إلى رفض تلك التهديدات مؤكداً أن القناه بنمية، وسوف تظل ملكاً للشعب البنمي، وأن رسوم القناة خضعت للتقييم بعناية وشفافية، وأن الرسوم تحافظ على الممر، وساعدت في توسيعه عام 2016، وإن كل متر مربع من قناة بنما والمنطقة المحيطة بها ملك لبنما وستبقى كذلك، وأن سيادة بلاده واستقلالها غير قابلين للتفاوض، نافياً أي سيطرة مباشرة أو غير مباشرة للصين على القناة.
وسبق لترامب أن قال إن بنما أساءت ما أسماه «الكرم الأمريكي» حيث أنفقت واشنطن نحو 400 مليون دولار بداية من عام 1902 لحفر القناة التي بلغ طولها 82 كم، وتربط خليج ليمون في المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ مروراً بالأراضي البنمية وبرزخ بنما، وشارك في حفرها 40 ألف عامل جاؤوا من 50 دولة، مات منهم نحو 20 ألف عامل أثناء الحفر بسبب أمراض الملاريا والحمى الصفراء والأمراض الاستوائية.


تحليل خطاب ترامب يكشف مدى التخوف الأمريكي من تحول قناة بنما لقاعدة صينية في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة، ووفق عدد من المراكز البحثية المرتبطة بالحزب الجمهوري مثل مؤسسة هيرتاج فإن الصين من وجهة نظرهم تستغل قناة بنما لتؤثر سلباً على الأمن القومي الأمريكي، وأن الوجود الصيني في بنما يمكن أن يكون بنفس الخطر الذي شكله الوجود العسكري للاتحاد السوفييتي السابق في كوبا خاصة في ظل تنامي النفوذ السياسي والاقتصادي للتنين الصيني على أبواب وحدود الولايات المتحدة الجنوبية، وتقوم الحسابات الأمريكية في الوقت الراهن على أن الخطر الصيني في بنما يأتي من مراقبة الصين للسفن الأمريكية خاصة السفن العسكرية التابعة للبحرية الأمريكية، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة حول هذه القضية خصوصاً ما يتعلق بقدرات ترامب على استعادة القناة بالقوة، وهل بالفعل وصل النفوذ الصيني في قناة بنما إلى درجة تخيف وتقلق صانع القرار في واشنطن؟ وما هي خيارات الشعب البنمي للتصدي لترامب إذا ما حاول تنفيذ تهديده والسيطرة على القناة بالقوة العسكرية؟
صراع قديم
منذ اكتشاف الأمريكتين كان هناك شيء ما يبحث عنه المستكشفون، وهو كيفية الربط بين شرق وغرب الأمريكتين حتى وجد الإسبان الفكرة التي سوف تساعدهم للتفوق على البرتغاليين، لكن الفكرة فشلت بسبب التحديات الفنية والهندسية حيث يحتاج نقل السفن من الشرق في المحيط الأطلسي للغرب في المحيط الهادئ، إلى رفع أو حمل السفن بحمولتها لأن منسوب المياه في الشرق في المحيط الأطلسي أقل من ارتفاع المياه في المحيط الهادئ، لكن يعود للإسبان أنهم أول من فكر في تأسيس قناة تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ حيث سجلت أول إشارة للرغبة في حفر قناة بنما عام 1513 عندما وجد البحار الإسباني فاسكو نونييث مساحة ضيقة من اليابسة تفصل الأطلسي عن الهادئ، وبعدها طلب ملك إسبانيا شارلكان عمل دراسة حول إمكانية وجود مسار بحري يربط المحيطين الأطلسي والهادئ دون الدوران جنوب القارة الأمريكية الجنوبية، التي كانت رحلة مكلفة للغاية ومحفوفة بالمخاطر، وكان لمدريد وقتها هدفان، الأول هو تحقيق التفوق العسكري على البرتغاليين في أمريكا الجنوبية خصوصاً في البرازيل، والثاني هو تسهيل وصول السفن والبضائع من بيرو على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية إلى إسبانيا.


جدل كارتر
لا يمكن تسطيح الأمر بقول البعض إن الأمر يتعلق فقط بالرئيس ترامب شخصياً، وإنه في ولايته الثانية يريد أن يصنع التاريخ باستعادة أراض، وضم جزر شاسعة مثل جرينلاند ودول عملاقة مثل كندا، فهناك طبقة كبيرة في الولايات المتحدة غالبيتهم جمهوريون لكن معهم نسبة غير قليلة من الديمقراطيين يعتقدون أن قناة بنما هي صناعة وفكرة أمريكية من أيام الرئيس توماس جيفرسون، وكان يجب أن تظل أمريكية بعد أن فشلت القوى الدولية الأخرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في حفر القناة التي تكلفت أموالاً طائلة بمقاييس ذاك الوقت جاءت من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين خصوصاً أن حفر القناة احتاج إلى جهد كبير وعبقرية هندسية بسبب ارتفاع سطح المياه في المحيط الهادئ بنحو 26 متراً عن المحيط الأطلسي. 
ورغم نجاح المهندس الفرنسي فردناند ديلسبس مع الخديوي سعيد بن محمد علي باشا في 25 إبريل 1859 في حفر قناة السويس إلا أن ديلسبس نفسه وفرنسا فشلوا في حفر قناة بنما بسبب مشاكل فنية ومالية حتى جاء الأمريكيون عام 1902، ونجحوا في حفر القناة بنهاية عام 1914 قبل عامين كاملين من الفترة التي كانت محددة لحفر القناة التي اختصرت الرحلة من شرق الولايات المتحدة إلى غربها والسواحل الغربية لأمريكا الجنوبية من 21 ألف كم إلى 8 آلاف كم فقط، بفارق 13 ألف كيلومتر كانت تضيع في الدوران حول جنوب أمريكا الجنوبية عند كيب هورن، ولهذا سهلت قناة بنما الربط بين 160 دولة، و1700 ميناء في العالم، ويمر من خلالها نحو 14 ألف سفينة سنوياً بمعدل 70 ألف حاوية اسبوعياً تشكل نحو 5% من حجم التجارة الدولية.


ومع الساكن الجديد للبيت الأبيض يتجدد السجال السياسي الذي كان محتدماً في نهاية السبعينات بين الجمهوريين والديمقراطيين حول قناة بنما، حيث رفض وقتها الجمهوريون بقيادة الرئيس الأسبق رونالد ريجان تسليم قناة بنما للبنميين إلا أن الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر أصر على توقيع اتفاقيتين باسم توريخوس - كارتر في 7 سبتمبر 1977 لتسليم القناة لبنما بعد عام 1999، وسميت الاتفاقيتان باسم الرئيس كارتر والحاكم العسكري لبنما في ذلك الوقت الجنرال عمر توريخوس. ورغم أن ريجان عندما أصبح رئيساً بعد هزيمته لكارتر لم يتخذ قراراً بشأن استعادة القناة إلا أن طيفاً واسعاً من الجمهوريين ظلوا يعتقدون بخطأ قرار كارتر بالتخلي عن قناة بنما رغم أن اتفاقيتي كارتر- توريخوس أعطتا الحق للولايات المتحدة في الدفاع عن القناة حال تعرضها للخطر، وجوهر هذا الاتفاق يقوم على معاهدتين، الأولى الحياد الدائم، والثانية يطلق عليها معاهدة قناة بنما، وتستمر المعاهدة الأولى إلى الأبد، وتمنح الولايات المتحدة الحق في التصرف لضمان بقاء القناة مفتوحة وآمنة، بينما نصت الاتفاقية الثانية على أن الولايات المتحدة ستسلم القناة إلى بنما في 31 ديسمبر 1999، وظلت الاتفاقيتان صامدتين حتى بعد غزو الرئيس جورج بوش الأب لبنما عام 1989 لإزاحة الزعيم البنمي مانويل نورييجا، وخلال فترة الجدل الحاد حول بنما عام 1977 وجدت استطلاعات الرأي أن نحو نصف الأمريكيين يعارضون قرار التنازل عن القناة. ولكن بحلول عام 1999 عند تسليم القناة لبنما كان الرأي العام لصالح قرار الرئيس جيمي كارتر.
هذا السجال تجدد في الآونة الأخيرة مع التقارب الكبير بين الصين ودول أمريكا اللاتينية، ولهذا هناك نخبة سياسية واقتصادية وعسكرية شديدة التأثير في القرار الأمريكي هي التي دفعت الرئيس ترامب لطرح هذه القضية خصوصاً في ظل الاستراتيجية الأمريكية الشاملة للمواجهة مع الصين، ويقوم القلق الأمريكي من النشاط الصيني في قناة بنما على مجموعة من المخاوف هي:
أولاً: مراقبة النشاط العسكري الأمريكي
ينبع قلق الرئيس ترامب من تغلغل الصين في قناة بنما، وأن شركات صينية مقرها هونج كونج هي من تدير الميناءين الرئيسيين على طرفي قناة بنما، ميناء بالبو في الغرب بجانب المحيط الهادئ، وميناء كريستوبال في الشرق بجانب المحيط الأطلسي، وهو ما يسمح لهذه الشركة بالتجسس على سفن البحرية الأمريكية وحتى على السفن التجارية التابعة لواشنطن، وفي عام 2018 فازت شركة الاتصالات الصينية والشركة الصينية لهندسة الموانئ بصفقة لبناء الجسر الرابع فوق قناة بنما، الذي يعبر القناة، والذي يمتد على مسافة 4 أميال، وهذا المشروع كان جزءاً من الاتفاقيات التي وقعتها بنما مع الصين عام 2017 عقب قطع بنما علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان، ولم تقتنع واشنطن بأن هدف بنما من هذه الاتفاقية هو تحويل القناة إلى مركز رئيسي لحركة المنتجات الصينية، وتوزيعها في منطقة أمريكا اللاتينية.
ثانياً: الاستخدام المزدوج
حذرت الجنرال لورا ريتشاردسون قائدة القيادة الجنوبية للجيش الأمريكي حتى نوفمبر الماضي من الاستخدام المزدوج من جانب الصين للمنشآت الموجودة في قناة بنما، وأن أحد أهم الأهداف التي تسعى إليها بكين هو تحديد مواقع الغواصات النووية الأمريكية عبر قياسات وعمليات كشف ورصد لقاع المحيط، وأن سفن الأبحاث العلمية الصينية في بنما هي التي تقوم بهذا التجسس.
ثالثاً: تناغم الأنشطة الصينية
لا تفصل واشنطن أنشطة بكين في بنما عن باقي أنشطتها في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي خصوصاً قيام الصين ببناء محطة رصد فضائي تتضمن هوائيات ضخمة تسمح بمراقبة حركة الأقمار الصناعية، لأن موقع هذه المحطة جنوب الأرجنتين، ويمر فوقه مسار غالبية الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض ما يسمح للصين بمراقبة حركة الملاحة في مضيق ماجلان الاستراتيجي، وهو أحد الطريقين البديلين عن قناة بنما، إذ يمر الطريق البديل الآخر عبر القطب الشمالي.
رابعاً: الحديقة الخلفية لواشنطن
يرتبط بالوجود الصيني المكثف في بنما رصد واشنطن مشروعات صينية في الدول المجاورة لبنما في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وهو ما جعل بكين تملك تأثيراً هائلاً ضمن مبادرة الحزام والطريق، فالصين أصبحت هي الشريك التجاري الأول لأمريكا الجنوبية، وفي 15 نوفمبر الماضي افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ أكبر ميناء تنفذه الصين في بيرو بربط أمريكا الجنوبية بالموانئ الصينية، وهو ما يجعل للصين نحو 40 ميناء عملاقاً في أمريكا اللاتينية.
خامساً: السيطرة على الاتصالات
تخشى واشنطن من سيطرة شركة هواوي الصينية على شبكات الاتصالات البنمية والشبكات الأخرى في أمريكا الجنوبية بما في ذلك الإنترنت من الجيل الخامس، وهو ما يسمح لبكين بالوصول للتنصت على النشاط الأمريكي المدني والعسكري مع دول أمريكا اللاتينية.
3 سيناريوهات للتعامل مع الأزمة
وفي ظل هذه المخاوف الأمريكية، والرفض البنمي لاتهامات الرئيس ترامب تبدو في الأفق 3 سيناريوهات رئيسية هي:
الأول: العمل العسكري
سبق أن رفض الرئيس دونالد ترامب استبعاد الخيار العسكري لاستعادة قناة بنما التي تم تسليمها لبنما في عهد الرئيس بيل كلينتون، ويستند الرئيس ترامب إلى نصوص اتفاقية الحياد الدائم في سبتمبر 1977 مع بنما التي تعطي واشنطن من وجهة نظر ترامب الحق في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن القناة وتأمين استمرار عملها كممر مائي دولي محايد، وسبق للولايات المتحدة أن استخدمت القوة العسكرية مرتين في بنما، الأولى عام 1989 في عهد الرئيس جورج بوش الأب بهدف عزل الجنرال مانويل نورييجا، بينما كانت الثانية عندما رفضت كولومبيا عام 1901، التي كانت تتبع لها قناة بنما التصديق على معاهدة تمنح أمريكا الحق في بناء قناة بنما، وحينها أرسل الرئيس الأمريكي روزفلت السفن الحربية إلى سواحل بنما، وبسبب التفوق العسكري الأمريكي، وضعف القوات الكولومبية أعلنت بنما بدعم من الولايات المتحدة استقلالها عن كولومبيا، ووضعت واشنطن دستور بنما، وحرصت أن يمنح الجيش الأمريكي الحق في التدخل في أي جزء من بنما، لإعادة إرساء السلام والنظام الدستوري، لكن هناك من يقول إن معاهدة الحياد الدائم والدستور البنمي لا يمنحان ترامب حق استعادة القناة، بل فقط الدفاع عنها ضد أي عدوان خارجي.
الثاني: العقوبات الاقتصادية
تشكل السفن الأمريكية التجارية والحربية التي تمر في قناة بنما نحو 72% من إجمالي حركة النقل في القناة، ولهذا هناك من اقترح على الرئيس ترامب أن يبدأ بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على بنما لإلغاء اتفاقياتها مع الشركات الصينية حول الموانئ، ووقتها يمكن للولايات المتحدة أن تدير العمل على طرفي القناة الشرقي والغربي بدلاً من الشركات الصينية التي مقرها هونج كونج.
الثالث: تغيير الاتفاقيات
والمقصود بها هنا هي الاتفاقيتان اللتان وقعهما الرئيس جيمي كاتر، بحيث تحصل واشنطن على مزايا حصريه لا تمنح للصين، وذلك كبديل عن العمل العسكري أو استخدام القوة لاستعادة القناة.
الواضح أن تعامل ترامب سوف يختلف كثيراً عن طريقة وأسلوب إدارة بايدن سواء في القضايا الاقتصادية أو الجيو-سياسية، وهو ما يقول إننا أمام 4 سنوات فاصلة ليس فقط في التاريخ الأمريكي بل في مستقبل العالم.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق