اللغة العربية والأمن الوطني

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
اللغة العربية والأمن الوطني, اليوم السبت 5 أكتوبر 2024 10:25 مساءً

إن اللغة العربية هي أول ما تبادر إلى ذهني لحظة أن قرأت عن التفجيرات التي حدثت في الأجهزة اللاسلكية وما تلاها من تصريحات عن قلق دول العالم بشأن سلاسل التوريدات العالمية والمخاطر التي تهددها، وضرورة فرض الإجراءات الأمنية لحمايتها ولا سيما التقنية منها، وما تلا ذلك من المقالات والتعليقات التي كتبت في هذا الأمر، وتناولت الأمن الدولي والمخاطر التي تهدده، واحترازات بعض الدول من التصنيع في الخارج وحرصها على الإنتاج الداخلي والاكتفاء الذاتي، ولا سيما في المجال العلمي والتقني، وأخذني ذلك إلى التفكير في وطننا المجيد ولا سيما قد تزامن ذلك مع الاحتفاليات بيومنا الوطني الرابع والتسعين؛ إذ على الرغم من التقدم المبهر الذي نعيشه اليوم في المملكة العربية السعودية في شتى المجالات، وعلى رأسها الجانب التقني والحاسوبي وما يتصل به من مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وهو ما تشهد به الأرقام التي تحتلها المملكة في المؤشرات العالمية، وما تحققه من مراتب متقدمة وسابقة على مستوى العالم اليوم، وعلى الرغم أيضا من الجهود الجبارة التي يبذلها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في تحقيق أمن اللغة العربية، في المجالات جميعها وفي هذا المجال تحديدا، بالتعاون مع عدد من الجهات العالمية والمحلية المهمة، إلا أن هناك ثغرة تحتاج إلى سدها وجانبا مظلما يحتاج إلى إنارته لتكتمل منظومة الأمن لدينا؛ ألا وهو تدريس المواد العلمية والتقنية بلغة غير اللغة العربية؛ اللغة الرسمية والأولى والأم في المملكة العربية السعودية، واستبدال اللغة الإنجليزية بها، وهو أمر خطير جدا؛ مما لا يخفى على أحد، وغير مناسب لما حققته المملكة - بفضل الله - في ظل رؤية المملكة 2030، من تصدر في المجالات المختلفة، وعلى رأسها الجانب التقني، وما حققته من سبق في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بشكل لافت، وتكمن خطورته في تعارضه مع أهداف الرؤية وتطلعاتها في بناء القدرات البشرية المؤهلة المبدعة والمنتجة والمصدرة، التي تتمكن من إنتاج المعرفة الأصيلة وتوطينها ونشرها في شتى المجالات؛ ذلك لأن الإبداع الأصيل لا يكون إلا باللغة الأم التي يتحدث بها الطلاب منذ نعومة أظفارهم ويفكرون بها طوال الوقت، ويفهمونها ويستطيعون أن يتحاوروا ويتناقشوا ويتفاهموا بها، ويبحثوا بها ويستدلوا، ويغوصوا إلى أعماق المشكلة، ويفككوا غموضها، ويكشفوا خباياها، ثم هم قادرون بعد ذلك على نقل المعرفة وإشاعتها بها بكل سهولة بين زملائهم وبين أفراد المجتمع، اللغة الأم التي يستطيعون أن يقرأوا المكتوب بها بسهولة، ويفهموه بسهولة، وفي وقت قياسي يترك لديهم الفرصة بعد ذلك للتفكير والتحليل والتركيب والتطبيق والتقويم والإبداع، ولقد أثبت الواقع وأثبتت الدراسات أن الإبداع يتصل اتصالا وثيقا باللغة الأم، والاختراعات العالمية التي خدمت البشرية وخلدها التاريخ خير دليل على ذلك.

ومن المعلوم أن الدول تبتعث أبناءها إلى الدول المتقدمة علميا لينهلوا من علومها التي أنتجتها بلغتها الأم، لكن المشكلة أن هؤلاء المبتعثين يواجهون صعوبات كبيرة في استيعاب العلوم بغير لغتهم، ويصبح همهم فهم اللغة أولا؛ للتمكن من حفظ وفهم المقرر والنجاح فيه، ومثلهم أبناؤنا الذين يدرسون المواد العلمية في الداخل بغير العربية حتى المتفوقون منهم؛ ليصبح همهم أن يفهموا اللغة؛ لا من أجل أن ينتجوا المعرفة ويبتكروا ويخترعوا هم أيضا؛ بل من أجل أن يحصلوا على الدرجات الكاملة والمعدلات الممتازة التي تكون رصيدا لهم في تحقيق آمالهم المستقبلية الدراسية والوظيفية، ومع الاعتراف الممزوج بالفخر بوجود نخبة من أبنائنا المبدعين الذين نعتز بإبداعاتهم واختراعاتهم وإنجازاتهم التي يباهي بها الوطن، ومنها الجوائز العالمية التي حصدوها في آيسف وغيره،-إلا أننا إذا نظرنا إلى أعداد الذين درسوا في الخارج أو في الداخل بغير لغتهم وقارناها بنسبة الابتكارات والاختراعات والإبداعات الأصيلة التي قدموها والمنتظرة منهم؛ لأخذنا العجب، ولا سيما حين نعلم أنهم متميزون في تحصيلهم الدراسي وفي درجاتهم، ولكن هل ينتظر الوطن منهم الدرجات فقط والتميز في التحصيل والمراتب الأولى ثم وظائف تتناسب معها فقط؟ بالطبع لا؛ فالوطن يريد من أبنائه أن يطبقوا ما تعلموه وما ابتعثهم من أجله بشكل عملي في خدمته وإعلاء شأنه؛ ليحاكي تلك الدول ذات الإبداعات الأصيلة التي ابتعثهم إليها؛ بل ويتفوق عليها.

قد نستثني من هذه الصعوبات في فهم اللغة والتي تؤثر على فهم كيفية إنتاج المعرفة وصولا إلى إنتاجها - قد نستثني خريجي المدارس العالمية الذين يدرسون باللغة الإنجليزية منذ نعومة أظفارهم - إذ إن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأم لديهم، إلى درجة أن بعضهم لا يتحدثون العربية أولا يجيدون التحدث بها، أو قد تتوقف معرفتهم بالعربية عند التحدث بها والاستماع إليها في أضيق الحدود وعند الضرورة، وأما الكتابة بها والتعبير بها، والقراءة بها، فحدث ولا حرج، ونضيف إلى ذلك أنهم يدرسون مقررات تلك الدول التي تنتمي إليها تلك المدارس، ومع أن وزارة التعليم قد زادت خطة تدريس مواد الهُوية الوطنية؛ لحماية هوية المملكة العربية السعودية التي تستضيف تلك المدارس على أرضها، وحماية هوية أبنائها، إلا أن الجزء الأكبر من المدروس والجو العام إضافة إلى اللغة الأم لتلك المدارس يُنذر بالخطر على هويتهم، ولا سيما في حال الافتقار إلى عوامل أخرى تساند وزارة التعليم في مهمتها؛ يتصدرها دور الأسرة في الحفاظ على الهوية في المنزل وخارج المدرسة، وتعاونها مع الوزارة في تعزيز الهوية الوطنية في نفوس الأبناء ولا سيما اللغة العربية الوجه البارز للهوية الوطنية، وهذا ما لا نريده، فنحن نريد مواطنين كاملي الوطنية قلبا وقالبا؛ نريد انتماءهم إلى وطنهم ودينهم ولغتهم وعروبتهم وتراثهم وقيمهم وتقاليدهم الوطنية العريقة، نريد مواطنين غاية آمالهم أن يرفعوا شأن بلدهم ودينه ولغته، ويعلوا رايته، ويردوا الجميل لدولتهم عمليا على أرض الواقع وليس مجرد شعارات.

المشكلة أن تدريس العلوم والتقنية بالإنجليزية سيجعل المعرفة غير متداولة في المجتمع وبين الطلاب؛ بل إن بعضهم يحفظ ولا يفهم، وبعضهم لا يستطيعون شرح أبسط الأمور باللغة العربية؛ لأنهم درسوها بالإنجليزية فقط؛ فكيف بالله ننتظر منهم إبداعا أصيلا!؟ وكيف يمكنهم توطين الطب والهندسة والتقنية والعلم والمعرفة؛ بل إن كثيرا من الأطباء - على سبيل المثال - يقفون عاجزين عن الشرح لمرضاهم في كثير من الأوقات؛ لأنهم لا يعرفون المقابل العربي للمصطلحات الإنجليزية التي درسوها في كلياتهم على أرض وطنهم؛ والأصعب من ذلك أن بعض الأطباء يوبخون طلابهم إذا تحدثوا أو شرحوا باللغة العربية حتى وإن كان ما يقولونه صحيحا، فماذا ننتظر من هؤلاء الطلاب وهم يعيشون التبعية في أهم أمر من الأمور التي تشكل الهوية وهو اللغة؛ بل إن بعض الطلاب من أبناء المبتعثين ومن طلاب الأقسام العلمية والمدارس العالمية باتوا يرون أن أهمية اللغة العربية تكمن فقط في كونها لغة القرآن الكريم، وأن الحاجة إليها فقط لقراءته؛ فهي مهمة دينيا لا علميا وتقنيا واقتصاديا؛ وما ذلك إلا بسبب الاستسلام اللغوي للإنجليزية في تدريس المواد العلمية والتقنية، وهو ما كان كفيلا بإقناع أولئك الطلاب بأن اللغة العربية لا تملك تلك الأهمية، أو أنها ليست قادرة في الأصل على حمل تلك العلوم المهمة، وهذا الكلام موثق في إجابات أولئك الطلاب في عدد من الأبحاث التي اهتمت بقياس نظرة الطلاب إلى تدريس العلوم بلغة غير العربية في الدول العربية، والحديث في هذا الموضوع طويل وذو شجون، ولكن ما تشهده المملكة العربية السعودية اليوم من تطور غير مسبوق واهتمام بالغ باللغة العربية يبعث الأمل في مستقبل مشرق للغة العربية يجعلها تحتل مكانتها في التعليم الجامعي وما بعده أسوة بمكانتها في التعليم العام، ويجعلها لغة المواد التقنية والعلمية جميعها، ويجعل أبناءنا يدرسون بلغتهم التي يفهمونها ويفهمون بها العلم والمعرفة التي يدرسونها، ويفهمون بها كيف يتم إنتاجها؛ ليتمكنوا بعد ذلك من إنتاج تلك المعرفة ونشرها وتصديرها، يرافق كل ذلك الإحساس بمتعة العلم والتعلم وحماسه ويُسْر تلقيه بلغتهم العربية، وليس الخوف من خذلان اللغة الأجنبية وصعوبتها مع الاكتفاء بما يؤدي الغرض منها، وهو النجاح والتفوق في التحصيل دون الإنتاج، ومع أن الأمر ليس سهلا إلا أن التخطيط اللغوي السعودي اليوم برعاية مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ومركز الملك عبد الله للتخطيط اللغوي والسياسة اللغوية كفيل بحل هذه المعضلة التي طال أمد حلها، وإذا حدث ذلك - وهو حادث بإذن الله - في ظل رؤية 2030 التي نصت على تعزيز الهوية الوطنية والعناية باللغة العربية ضمن أهدافها والتزاماتها- فسنهيئ الأجيال القادمة لإنتاج المعرفة وإنتاج العلم والتقنية ووسائل الاتصال التي بين أيدينا وسائر المخترعات، أما الآن وهم يدرسون ويحفظون من أجل النجاح والدرجات فالأمر فيه نظر؛ ولقد أجريت عدة دراسات للمقارنة بين دراسة طلاب الهندسة وطلاب الطب بالعربية وبالإنجليزية؛ فكانت النتائج أن نسبة الساعات التي يقضيها الطالب في الدراسة باللغة الإنجليزية أكبر بكثير من نسبتها حين تكون لغة الدراسة هي العربية، علاوة على السلبيات الأخرى؛ بل إن إحدى الدراسات أجرت مقارنات بين طلاب درسوا الطب بالعربية وبين آخرين درسوه بالإنجليزية في تجربة أجريت في الجامعة نفسها في إحدى الدول العربية، ووجدوا أن النتائج بين المجموعتين مختلفة وإيجابية بمراحل لصالح من درسوا بالعربية، ولا يعني هذا الدعوة إلى إلغاء اللغة الإنجليزية في تلك الأقسام؛ بل يعني حل إشكال تهميش اللغة العربية فيها من خلال سياسات التخطيط اللغوي الرشيدة، وتمكين الترجمة والتعريب فيها، وتدريس علومها باللغتين مع ضرورة تسيد اللغة العربية؛ بحيث تتحقق الموازنة المنشودة في أبنائنا بين المواطن العربي السعودي وبين المواطن العالمي.

إن توطين المعرفة وإنتاجها يحتاج إلى توطين لغتها، وإنتاج المعرفة وامتلاكها وإشاعتها ينعكس على لغتها انتشارا وإقبالا؛ فالعملية تبادلية، واللغة التي تنتج المعرفة تنتشر، ويصبح لها قيمة علمية واقتصادية واجتماعية وعالمية، وها هي اللغة الصينية اليوم - على سبيل المثال - صارت مطلبا في كثير من الدول؛ لأنها صارت لغة علم وتقنية، وبنظرة سريعة إلى الدول المتصدرة والمتفوقة في المجال العلمي والتقني سنجدها تعتمد اللغة الأم في تدريس العلوم والتقنية؛ لأن اللغة الأم هي الوسيلة التي يمكن بها توطين التقنية والعلم والمعرفة توطينا حقيقيا يؤدي إلى توطين الاختراعات والابتكارات والإبداعات الوطنية التي يتحقق من خلالها الاكتفاء الذاتي، والتصدير العالمي، والأمن الوطني العلمي والتقني والاقتصادي، ولا شك في أن اللغة العربية التي حملت أعظم كتاب على وجه الأرض الكتاب العالمي الخالد قادرة على إنتاج المعرفة الأصيلة وتوطينها ونشرها وتصديرها، وهو أمر غير جديد عليها ولا مستغرب منها؛ فماضيها العريق في حمل العلوم يشهد لها مع عدم حاجتها إلى تلك الشهادة، وهي من أهم ثرواتنا الوطنية التي نحتاج إليها لا سيما في المرحلة الحالية من التقدم والازدهار الذي نعيشه في مملكتنا الحبيبة في جميع المجالات، وعلى جميع الأصعدة المحلية والعربية والعالمية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق