وعند 15:56 رحل أبي - رحمه الله

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
وعند 15:56 رحل أبي - رحمه الله, اليوم الأحد 2 فبراير 2025 11:19 مساءً

على أن الموت حقيقة ثابتة خالدة في بني آدم؛ إلا أن الفقد موجع، ولن يستطيع أي لسان فصيح أو قلم بليغ أن يصفه ويبلغ عمقه، لكن العزاء أن اللقاء - بإذن الله - يتجدد في الحياة الباقية. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» متفق عليه.

عاش والدي - رحمه الله - آخر 3 عقود من عمره متنقلا بين أمراض متفرقة، أجرى خلالها عمليات متنوعة، إلا أنه في كل مرة منها يصارع بعزيمته وحسن ظنه بربه، فيخرج منها بأمل يتجدد وروح لله تعطي وتتعبد، وكان - غفر الله له - حامدا شاكرا يصبرنا ويصبر نفسه بقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أحب عبدا ابتلاه»، وقوله «يبتلى المرء على قدر دينه»، وقوله «وما أصاب المسلم من هم، ولا غم، ولا نصب، ولا وصب، ولا أذى، حتى الشوكة إلا كفر الله بها من خطاياه»، حتى أتى يومه وحانت منيته في الساعة 3:56 من مساء يوم الثلاثاء 28 من شهر رجب لعام 1446 عن عمر بلغ الثمانين عاما، عاشها موحدا وعابدا وموقنا أن ما عند الله خير وأبقى.

كان والدي - رحمه الله - عصاميا في حياته، نبيلا في خُلقه، كريما بطبعه، شهما في بذله، قائدا بفطرته، عازما في رأيه، منجزا في عمله، طموحا في أهدافه، قريبا إلى ربه بطاعته وتعامله، وأبا رفيقا ومربيا حازما يفاخر بأبنائه وعصبته.

أجبرته قسوة الحياة - عفا الله عنه - أن يفارق والديه في سن مبكرة طلبا للعلم وسعيا للرزق، فكان - غفر الله له - يقضي يومه بين تدريس ودراسة وتجارة وصلة وعبادة ومد يد العون للسائل والمحروم، فقد حدثني أحدهم أن أبي - رحمه الله - زارهم قبل 50 سنة في منزلهم، وسمع والده - رحمه الله - يحادث آخر عن تعطل سيارته وحاجته لنقل أهله إلى مدينة أخرى، فبادر أبي - رحمه الله - دون أي تردد بدعوتهم لأخذهم بسيارته، ولسان حاله:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإنَّ فساد الرأي أن تتردَّدا

عرفناه - غفر الله له - محبا للطاعة، قلبه معلق بالصلاة، حريصا على شهادتها في روضة المسجد، سبّاقا إليها، ومتمسكا بنوافلها، رغبة منه في بلوغ تمامها وعظيم أجرها. ومن حرصه عليها، كان حازما معنا في أدائها وكمالها، فلقد كان - رحمه الله - يوقظنا لصلاة الفجر منذ نعومة أظفارنا، ولا يأبه إن كنا في النوم غارقين أو متعبين أو من شدة البرد متلحفين، وكان يردد كل صباح على مسامعنا «الصلاة خير من النوم»، «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، «أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

بل كان - رحمه الله - يرى أن النوم حتى أذان الفجر من التفريط والخسران، مدركا عظم فضل صلاة الليل ومناجاة السحر. فقد حدثني زوج أختي حين كان قاضيا في إحدى المحافظات أن أبي - غفر الله له - بات عندهم ليلة، فلما ذهب ثلثي الليل استيقظ وصاح بهم ليوقظهم، فأجابوه أن أذان الفجر لم يحن بعد، فرد عليهم متعجبا: وهل تنامون حتى يؤذن لصلاة الفجر؟!

ومن شدة حرصه - رحمه الله - على مضاعفة أجره كان مداوما على مجاورة بيت الله الحرام في العشر الأواخر من رمضان لسنوات طوال، حتى أقعده تعبه وضعفت قوته، وكان يعزي نفسه بكفالة المعتمرين أو تفطير الصائمين هناك علّها أن تروي شيئا من عطشه وشوقه للقاء بيت ربه.

وفي باب الصيام، كان - غفر الله له - يقاوم حظوظ نفسه ويصارع تعبه، فيصوم منها ما استطاع رغبة في ما عند الله وهو يردد «إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ». ومن ورعه في صومه، أنه أفطر يوما في النهار ناسيا، فذكرناه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم «من نسِي وهو صائمٌ فأكل وشرب فليتمَّ صومَه، فإنَّما أطعمه اللهُ وسقاه»، فأومأ برأسه، وبعد أيام عرفنا أنه أعاد صيامه، وحين سألناه عن ذلك قال: ليطمئن قلبي، وفي الزيادة خير وبركة.

أما الصدقة وبذل المال، فكان - عفا الله عنه - يعطي عطاء جزلا لا يخشى الفقر من بعده، حريصا حرصا شديدا على تفطير الصائمين، وإكرام العابدين، ومد يد العون للمحتاجين، وبذل الأموال الضافية في الصدقات الجارية.

قلت له مرة - رحمه الله - هناك حاجة ماسة لبناء مركز إسلامي في إحدى البلدان الإسلامية للصلاة وكفالة الأيتام وتعليم القرآن والعلوم الشرعية، فإن رأيت شاركنا مع المحسنين ببنائه، فبادرني بسؤاله: هل سبقنا أحد إليه؟ قلت: لا، قال: إذن نتكفل به كله!

ومن آخر أمانيه - غفر الله له - أن يكرمه الله ويعينه على بناء جامع في مدينة الرياض ليكون منارة للإسلام والمسلمين، ومن طبعه - رحمه الله - الإتقان والجزالة، فلا يرضى مطلقا باليسير، إلا أن ما يريد تحقيقه في أمنيته هذه يتطلب جهدا كبيرا ومالا وفيرا، فاقترحت عليه أن يفتح المجال لغيره فيعينونه ويشاركونه في الأجر والمثوبة؛ فأبى ورد علي بنفس واثقة: سيعيننا الله على بنائه.

ومن قدر الله وحكمته، أن تمر رحلة بناء الجامع بمنعطفات وتحديات فقد فيها بعض جهده وماله، وتسببت في تأخر بنائه، حتى كان - رحمه الله - يتألم ويدعو الله أن يطيل في عمره حتى يهنأ بتمامه وينعم بشهود الصلاة فيه؛ وكان له ما أراد! فارتاحت نفسه واطمأنت روحه، وكأنما في لحظة حيزت له الدنيا بحذافيرها.

ولأن نفسه تواقة إلى الخير، تجددت أمانيه، فكان يؤمل - رحمه الله - أن يعينه الله فيجدد لقاءه ببيت ربه بعمرة وحج رغبة في ما عند الله؛ إلا أن جسده غلبه، وتخفيفا لما ألم به، رغبناه ببلوغ أجره - بإذن الله - بكفالة من يرغب في أداء واجبه وتمام حجه.

لقد كان - غفر الله له - ذاكرا ومكثرا من تلاوة القرآن، حتى أنه كان يختم في رمضان كل ثلاثة أيام، ويحرص على قراءة سورة البقرة في بيته كل ليلة، وكثيرا ما كان ينصحنا بقراءتها ويردد قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم.

لئن كان - رحمه الله - حازما في رأيه، صارما في مبادئه، إلا أنه يملك قلبا رحوما ومتسامحا، فأذكر في إحدى عملياته التي أجرها في حياته، أنه أسر إليّ قبل أن يجريها بعدة وصايا، كان منها: إن أتاكم أحد يخبركم بأنه مدين لي فسامحوه ولا تأخذوا منه شيئا، وإن أتاكم من يدعي أن له في رقبتي مالا فأعطوه دون تحقيق أو تدقيق.

رحل - رحمه الله - بوجه وضاء، وقد صلى عليه وشيعه مئات المصلين، وأثنى عليه ودعا له مئات المعزين، ولا شك أن الناس شهداء الله في أرضه. لما مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، قال عليه الصلاة والسلام «وجبت وجبت»، ثم مر بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرا، فقال عليه الصلاة والسلام «وجبت وجبت»، ثم قيل له: ما وجبت وجبت؟ قال عليه الصلاة والسلام «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض» متفق عليه.

قال عليه الصلاة والسلام: «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم. مات أبي - غفر الله له - وقد ترك صدقات جارية نسأل الله أن يتقبلها، وكان معلما وموجها لأبنائه ومئات الطلبة ممن تتلمذ على يديه، ونرجو الله الكريم أن نكون من عباده الصالحين البارين، فلا نفتر عن الدعاء له.

كلماتي المقتضبة هذه ليست رثاء له، ولن توفيه حقه، إلا أن مسيرته وأعماله هي من تشهد له، ونشهد الله، وهو أعلم به، أنه قد أدى الأمانة فينا، فبذل حرصه وجهده لتنشئتنا على طاعة الله، والمسابقة في العلم للتحصن به، وسعى سعيا حثيثا لتهذيبنا وتعزيز ذواتنا بالثقة والعزيمة والأخلاق الحميدة، فاغفر اللهم لعبدك إبراهيم مغفرة من عندك، وارحمه رحمة واسعة تجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، إنك أنت الغفور الرحيم.

رحل عنا ولم يرحل منا - رحمه الله - وستبقى ذكراه معنا وفي قلوبنا، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا أبي لمحزونون.

moqhim@

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق