يتسم العالم اليوم بترابط غير مسبوق، لكنه في الوقت ذاته أكثر هشاشة. فالأزمات لم تعد محلية، بل تمتد تداعياتها عالمياً، ما يزيد من عدم الاستقرار. بين التنافس الجيوسياسي والتغير المناخي والأزمات الاقتصادية، يواجه النظام الدولي تحديات معقدة تُعيد تشكيل العلاقات بين الدول، وتثير تساؤلات حول مستقبل الاستقرار العالمي.
يطرح روبرت دي كابلان في كتابه الجديد بعنوان «أرض الخراب: عالم في أزمة دائمة» الصادر حديثاً عن دار «راندوم هاوس» بالإنجليزية ضمن 224 صفحة، رؤية شاملة لعالم يواجه مزيجاً مدمراً من الأزمات المتشابكة، من الحروب والتغير المناخي، إلى التنافس بين القوى العظمى والتقدم التكنولوجي السريع. يتناول الكتاب تحليلاً دقيقاً لجذور هذه الأزمات وآفاقها المستقبلية، مسلطاً الضوء على نقاط التقاطع بين الجغرافيا السياسية والظواهر الاجتماعية الحديثة مثل التحضر والإعلام الرقمي.
يعتمد كابلان على تاريخ طويل من البحث في الشؤون الدولية، وعلى خلفيته كمؤلف لأكثر من عشرين كتاباً، ليقدم تفسيراً معمقاً لكيفية تشكل المشهد الجيوسياسي الحالي وتأثيره في العالم. يلفت الكتاب النظر إلى التأثيرات المستمرة لانهيار الملكيات والإمبراطوريات في تشكيل النظام العالمي الراهن، مشيراً إلى أن غياب هذه الأنظمة، التي كانت في السابق عامل استقرار، يفتح المجال لمزيد من الاضطراب.
تداخل الأزمات المحلية والعالمية
يعود كابلان في تحليله إلى أدبيات القرن العشرين، مستوحياً من أعمال الفلاسفة والمفكرين المحافظين، ومن بينهم ألكسندر سولجينتسين وجين كيركباتريك. ويستخدم الكاتب هذه الأعمال كعدسة لرؤية الحاضر، مستعيناً بأمثلة تاريخية، أبرزها جمهورية فايمار الألمانية. يرى كابلان أن الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في ألمانيا، والتي شهدت صعود النازية، تقدم أوجه شبه مثيرة للقلق مع الوضع العالمي الحالي.
في جمهورية فايمار، أدى تداخل الأزمات المحلية والعالمية إلى زعزعة استقرار الديمقراطية، ما مهد الطريق لصعود أنظمة استبدادية. يعقد كابلان مقارنة بين هذه الفترة وبين عالمنا الحالي، حيث تؤدي الأزمات المتشابكة، مثل الأوبئة، والانكماش الاقتصادي، والهجرة الجماعية، والصراعات بين القوى الكبرى، إلى زيادة هشاشة النظام العالمي. ويشير إلى أن الترابط التكنولوجي جعل من المستحيل أن تبقى الكوارث محلية، فالأزمات في أي دولة لها تداعيات عالمية مباشرة.
يقول المؤلف: «نحن نبني حضارة عالمية حقيقية تربطنا جميعاً، وهذا هو التحدي. تحديداً لأن هذه الحضارة العالمية لا تزال في طور التشكّل، ولم تصل بعد، ولن تصل في المستقبل القريب، يظهر هذا التداخل بين الحميمية والمسافة بين مختلف أجزاء العالم. لا تزال العولمة الحقيقية وهماً إلى أن تتقدم التكنولوجيا والحكم العالمي بدرجات أكبر. ومع ذلك، فإننا نؤثر في بعضنا بشكل عميق ونعتمد على بعضنا، ما يجعلنا جميعاً نعيش في نفس النظام العالمي غير المستقر بشدة. يشبه الأمر مسرحية سارتر (لا مخرج)، حيث يجد ثلاثة شخصيات أنفسهم محبوسين في غرفة صغيرة يعذبون بعضهم. وبدون وجود مرايا على الجدران، لا يعرفون أنفسهم إلا من خلال نظرات الآخرين لهم. بالفعل، نحن محررون ومضطهدون في الوقت نفسه بسبب هذا الترابط، حيث تزداد سيطرة الإعلام على توجيه الحكومات بدلاً من أن تكون الحكومات هي المسيطرة. روسيا وأمريكا، الصين وأمريكا، روسيا والصين، دون أن نذكر القوى المتوسطة والصغرى، جميعها متورطة في مواجهات متوترة، ومع استمرار التكنولوجيا في تقليص المسافات بين أجزاء الأرض، فإنها تشغل محاكاة غريبة لجمهورية فايمار: ذلك الكيان السياسي الضعيف والمترنح الذي حكم ألمانيا لمدة خمسة عشر عاماً بين رماد الحرب العالمية الأولى وصعود أدولف هتلر. العالم بأسره الآن أشبه بجمهورية فايمار كبيرة، متصل بما يكفي لكي يؤثر جزء منه بشكل مميت في الأجزاء الأخرى، لكنه غير مترابط بما يكفي ليكون متماسكاً سياسياً. مثل الأجزاء المختلفة لجمهورية فايمار، نجد أنفسنا في مرحلة شديدة الهشاشة من التحول التكنولوجي والسياسي.
الأولوية للاستقرار في أنظمة الحكم
يرى كابلان أن الأولوية يجب أن تُمنح للاستقرار في أنظمة الحكم، بدلاً من التركيز على الديمقراطية الجماهيرية كغاية في حد ذاتها. يشير إلى أن الليبرالية التاريخية والنظام المنضبط هما الأداتان الأكثر فاعلية لتجنب الفوضى السياسية، بينما تعاني الديمقراطيات الموسعة التحديات التي قد تؤدي إلى مزيد من الانهيار.
يشير إلى أنه «فيما يتعلق بظهور الدول الديمقراطية في أجزاء أخرى من العالم، فقد أصبحت مسؤولية ضبط النفس والحكم الرشيد تقع عليها الآن بشكل غير مسبوق في تاريخها. لم يعد هناك أي سيادة يُمكن اللجوء إليها. السبب الذي جعل القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين مليئين بالعنف هو اختفاء القوة المستقرة التي كانت توفرها الملكية في وسط أوروبا وروسيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى، وذلك من منظور تاريخي عميق. نعتقد أننا تقدمنا أخلاقياً في قيمنا، مع تركيز غير مسبوق على قضايا مثل حقوق الإنسان والبيئة، ولكن هذا لا يقول الكثير عن استقرار نظام عالمي يواجه مصالح متصارعة، تغذيه عدوانية الديكتاتوريات الحديثة في أماكن مثل روسيا والصين. وهذا النظام العالمي مرتبط بشكل محكم كما لم يكن من قبل، ما يعيدنا إلى التشبيه بجمهورية فايمار».
يبرز كابلان أهمية فهم التاريخ ليس كأحداث معزولة، بل كأنماط متكررة يمكن أن تلهم كيفية التعامل مع الحاضر، ويشير إلى أن الغياب المتزايد للقيادات السياسية التي تمتلك رؤية بعيدة المدى يفاقم الأزمات المعاصرة. فبينما تتميز التحديات الحالية بالتعقيد الشديد والترابط العميق، يغلب على السياسات الدولية اتخاذ قرارات قصيرة الأجل تركز على المكاسب الآنية، ما يعزز حالة الهشاشة العالمية. بالنسبة لكابلان، الحل يبدأ من استعادة حس القيادة الرشيدة التي تجمع بين الحكمة والاستراتيجية.
يناقش الكتاب أيضاً دور الإعلام الرقمي وتأثيره المتزايد في تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي. يرى كابلان أن الإعلام الرقمي، رغم مساهمته في تعزيز التواصل بين المجتمعات، قد أصبح أداة لتكريس الانقسام والتطرف. فالتدفق غير المسبوق للمعلومات دون تنظيم أو ضوابط يعزز الاستقطاب ويقلل من فرص التوصل إلى تفاهمات مشتركة. يشدد الكتاب على الحاجة إلى إعادة التفكير في دور الإعلام الرقمي كوسيلة لنشر الوعي بدلاً من كونه مجرد ساحة للصراعات الإيديولوجية.
في السياق ذاته، يطرح كابلان تساؤلاً حول قدرة التكنولوجيا المتقدمة على المساهمة في استقرار النظام العالمي. فبينما تُعد التكنولوجيا وسيلة فعالة لتعزيز الكفاءة والتنمية، إلا أنها في الوقت نفسه تضيف طبقات جديدة من التعقيد للنظام العالمي. على سبيل المثال، يشير الكتاب إلى السباق التكنولوجي بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، والذي لا يقتصر على الاقتصاد فقط، بل يمتد إلى الهيمنة الجيوسياسية. يرى كابلان أن النجاح في استخدام التكنولوجيا كقوة للاستقرار يعتمد على وجود قيادة عالمية مسؤولة تعمل على تجنب الصراعات وتعزيز التعاون الدولي.
ما يميز الكتاب هو الربط بين الماضي والحاضر، حيث يقدم صورة مستقبلية لعالم يتسم بالترابط التكنولوجي ولكنه في الوقت نفسه يعيد إنتاج أنماط تاريخية مقلقة. يعبر كابلان عن خوفه من أن العالم قد يكون على شفا فقدان السيطرة، ما لم يتحرك القادة بسرعة لتوجيه دفة الأمور نحو الاستقرار.
رغم أن الكتاب يتناول قضايا معقدة، فإنه يطرحها بأسلوب يوازن بين السرد التاريخي والتحليل السياسي. يجمع كابلان بين العمق الفكري والتحليل الجيوسياسي، ما يجعل الكتاب دعوة للتفكير الجاد في مستقبل البشرية، بعيداً عن المثالية التي قد تتجاهل الواقع القاسي للأزمات العالمية المتشابكة.
0 تعليق