يا حيف على الشجعان!

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
يا حيف على الشجعان!, اليوم الاثنين 13 يناير 2025 09:36 مساءً

كان يعتقد صمويل كولت، مبتكر المسدس، أنه محق تماما عندما قال "الآن يتساوى الشجاع مع الجبان". فبفضل اختراعه العبقري أصبح الجبان قادرا على الوقوف في وجه الشجاع، ولو عبر قطعة معدنية صغيرة تحمل على الخاصرة. لكن لو عاد كولت إلى عصرنا ليشاهد "الجبناء الجدد"، لكان صُدم بحقيقة أن الزمن لم يجعل الجبان مساويا للشجاع فحسب، بل تفوق عليه بكل براعة!

تخيل معي، شجاع مغوار في ميدان الوغى، سيفه يلمع تحت أشعة الشمس، وخيله يركض كريح الصحراء، ينشد نزالا بطوليا، لكنه لا يجد خصما بشريا ليقف أمامه. أو جندي شجاع يتأبط بندقية حديثة الصنع، فجأة تظهر طائرة بلا طيار تحوم فوق رأسه. الشجاع، بحكمته وشجاعته، يخاطب قائد الطائرة الذي يبدو له قزما يختبئ داخل هذه علبة "انزل قاتلني يا عدو الله!" لكن الطائرة تطلق وابلا من النيران. يلفظ الشجاع أنفاسه الأخيرة وهو ينظر بعينين ذاهلتين إلى الطائرة التي تهبط بجواره لتكشف له الحقيقة الصادمة. إنها ليست سوى قطعة معدنية تحمل شاشة تُظهر شابا نحيفا، يرتدي "تيشيرت" عليه صورة جمجمة، ممسكا بجهاز تحكم عن بعد. ينظر إلى الشاشة قائلا بابتسامة ساخرة "قيم أوفر!".

حتى الحرامي كان شجاعا، كان يواجه الموت - لا غفر الله له - من أجل لقمة الحرام التي يسعى لتأمينها لنفسه. يقفز على الأسوار العالية، يتسلق الجدران الملساء، وربما يسقط لتنكسر قدمه أو ذراعه؛ لكنه لا يستسلم. وفي مغامرته، قد يواجه امرأة تصرخ، أو طفلا يرمقه بعينيه الدامعتين، فيخرج بأقل الأضرار. لكن إذا كان تعيس الحظ، فسيصادف رجلا جسيما، أو حراميا آخر يعرف كل الطرق الملتوية فيسرق ما سرق، لقد كانوا حرامية لكنهم إذا التقوا كان لقاء الفرسان!

رغم كل ذلك، هؤلاء كانوا شجعانا! لا يختبئون خلف شاشات أو يتوارون في الظلال. أما حرامية هذا الزمان الجبناء، فقد أتقنوا فن الاختفاء. لا يظهرون لك وجها لوجه، بل يرسلون رابطا مغريا، يدخل إليه الضحية بحسن نية أو غفلة أو جهل، ليكتشف لاحقا أن حسابه البنكي قد أصبح خاليا. وعندما تبحث عن هذا الحرامي الحديث، تجده مختبئا خلف دولة مارقة، معم إنها سرقة بلا مخاطرة (تستحق إدارة المخاطر في شركته جائزة نوبل) إنه انتصار بلا شجاعة، وجبناء يتصدرون المشهد الإجرامي!

حتى الحب كان للشجعان! كان العاشق يغامر بروحه وقلبه حين يقف تحت نافذة حبيبته، يتغزل بصوته العذب وهو يرتعش من الخوف أن يظهر والدها فجأة، أو يختبئ خلف بابها، ينتظر لحظة تسلل عينيها إليه ليضع في يدها ورقة صغيرة، مكتوب عليها "رقم هاتفي الثابت، الرجاء الاتصال بعد السادسة مساء". فإن رآه شقيقها، لن يخرج سليما. سيعود إلى منزله مُبرحا ضربا، محملا بإهانة لا تُنسى، وإذا اشتد الأمر قد ينتهي به الحال في مركز الشرطة، ويصبح حديث الحارة "هذا هو العاشق الوقح الذي يحوم حول بنات الناس!". الحب الالكتروني جعل كل شيء سهلا. لم يعد هناك مجال للشجعان. حتى الدبدوب أصبح عاشقا، والأعرج أصبح خبيرا في القفز بين القلوب الافتراضية، والمُتردد صار يرسل رسائل جريئة بعد أن يحذفها خمس مرات قبل الإرسال.

عاشقو الأمس كانوا يتحدّون سيوف الآباء وأحذية الإخوة. عاشقو اليوم يتحدّون ضعف الإنترنت فقط. يا ليت عنترة ومجنون ليلى معنا ليروا "عشاق الباندويث" ويفهموا كيف لم يعد الحب حكرا على القلوب الجريئة!

حتى في عالم الأخلاقيات، أو ما نزعم أنه بيئة الأخلاقيات، كان البحث العلمي مغامرة بطولية. الباحث في الماضي، حتى لو كان لصا، كان يتعب ليصبح "لصا محترما". كان يمضي لياليه بين رفوف المكتبات، يتصفح المجلدات الثقيلة، يبحث عن البحث المناسب للسرقة. وإذا قرر أن يسرق، فإنه يقرأ ما سرقه بعناية، يضع إشارات صغيرة في الهامش، ويحفظ المصادر حتى لا تفضحه كلمة أو اقتباس عشوائي.

أما الآن؟ لا حاجة لتلك الجهود البطولية، فقد جاءت برامج الذكاء الاصطناعي لتريح "الباحث الكسول" من عناء البحث وحتى عناء السرقة ليحصل على دراسة محكمة، مرتبة ومراجعَة، بل وقد تحتوي مراجع جاهزة أيضا.

حقا، يا حيف على الشجعان و على أيام سرّاق البحث العلمي السابقين! كانوا على الأقل يتعبون ويقرأون قبل أن يسرقوا. كانوا "حرامية" بشرف، أما الآن؟ حتى السرقة أصبحت بلا روح، مجرد ضغطة زر!

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق