حلبة الوحوش والفرحة المجروحة في أرض النار

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حلبة الوحوش والفرحة المجروحة في أرض النار, اليوم الأحد 29 ديسمبر 2024 07:31 مساءً

دفاتر التاريخ حاضرة، والحبر جاهز. بعض أنواعه تشبه سم العقارب، والبعض قاتلٌ لصاحبه. والأيام دول، والأحداث كثير منها كالزلازل، والقليل ذو ارتدادات على العالم.

في ليلة نوفمبرية عام 1989م، خرج الألمان عاقدي العزم على كسر جدار برلين، الذي عزل دولتهم لقرابة 18 عاما. لم يخال لهم أنه إذا تحقق هدفهم، سيكون مؤثرا على النظام العالمي. وذلك ما كان، فقد أدت إزالة الجدار لإعادة رسم أوروبا. بل تخطى الأمر القارة العجوز؛ حتى بلغ التوازنات الدولية.

والتاريخ ربما يعيد نفسه. ففي صباح يوم ديسمبري، استفاقت دمشق على فرار رئيس جثم هو ووالده على صدرها أكثر من 50 عاما. هرب الوريث الدموي. سقطت صوره في الأزقة والشوارع. تبخر شعار "الله سوريا بشار وبس".

وغرق عضو مجلس الشعب الذي قال يوما لبشار "أنت العالم العربي قليل عليك. يجب أن تحكم جميع العالم"، في وحل دناءة الرجولة.

دون أدنى شك فإن الإطباق على نظام الأسد له تبعاته الإقليمية والدولية، ما قد يؤدي إلى إعادة بلورة أو صياغة النظام العالمي الجديد، بناء على المعطيات الحديثة.

لكن الأمر بحاجة إلى بعض من الوقت، حتى تتمكن السلطات الجديدة من طمأنة العالم، من ناحية خلع رداء الإسلام السياسي، المدموغ في دوائر عالمية بالإرهاب.

والسؤال، من الرابح والخاسر مما يحدث؟ الرابح بزعمي السوريون، إذا ما تخلصوا من فلول النظام البائد، وممن يتم تحريكهم من الخارج، في إطار ثورة مضادة ممنهجة. لأن البعض فهم ردود الفعل الإيرانية مؤخرا، بأنها كلمة سر لمؤيدي نظام الأسد الرافضين للتغير. وهذا صواب يحتمل الخطأ. وخطأ يحتمل الصواب.

وهناك من ربط ما حدث ببعض المناطق السورية أعمال عنف، كحمص الخميس الفائت، إذ نصب فلول النظام السابق كمينا أدى لمقتل شخصين وإصابة 10، وسبقه مصرع 14 شخصا تابعين لسوريا الجديدة في طرطوس الساحلية، أيضا على يد مؤيدين للنظام الهارب؛ بالمواقف الإيرانية، لكن آخرين يرونها من باب المصادفة!

وبعيدا عن ذاكرة السمكة؛ يجوز لنا استذكار مقولة "إذا خسرنا دمشق، فلا يمكن أن نحتفظ بطهران"، التي جاءت بعد اندلاع الثورة السورية على لسان مهدي طائب، وهو أحد أساتذة الحوزة الدينية في مدينة قم. ومن هنا يمكن استيعاب ما تمثله دمشق لإيران، وأنها أكثر الخاسرين والمتضررين من هروب الأسد وتفكك أركان نظامه.

أتفهم ردود الأفعال الإيراني النابعة من خسارة إستراتيجية أنتجها التحول السريع في سوريا. وذلك ناجم عن صدمة كبرى، تسببت بها الحسابات الخاطئة، بأن الأسد الابن كما هو الأسد الأب، الذي كان مناصرا لإيران إبان الحرب العراقية ضدها. وقطع خط الصادرات النفطية العراقية من البحر المتوسط. ما أصاب صدام حسين وقتذاك بالجنون.

أعود للرابح الأهم. من هو؟ تركيا. كيف؟ أولا: لأنقرة حدود مع سوريا تتجاوز 900 كيلو متر، تريد حمايتها بالتقارب مع حكام دمشق الجدد. ثانيا: التخلص من ملف اللاجئين، الذي انعكس على أمنها القومي، ومعدلات البطالة، لا سيما وأنهم – أي اللاجئين -، أصبحوا عاملا منافسا للأيدي العاملة التركية. ما أدى لانعكاسات سلبية على البلاد، حتى من الناحية الانتخابية على حزب العدالة والتنمية الحاكم.

ماذا بعد؟ هناك فوائد أكثر أهمية مما سبق. الأولى: تقليم أظافر الأكراد شمال شرق سوريا، والذين يشكلون هاجسا قاهرا لأنقرة. وقد توعدهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأسبوع الماضي، إما أن يلقوا السلاح، أو سيدفنون في الأراضي السورية.

الثانية: مواجهة إيران. كيف؟ أنقرة وطهران ليس كما يصور الإعلام علاقتهما بالوردية. هذا مغالط للحقيقة. فالأولى تستميت للاستفادة من فراغ الأخيرة، في سوريا، ولبنان، وربما لاحقا في العراق. والثانية تسعى لترهيب المجتمعات من الأصوليين السنة، بينما تعد منتجة ومصدرة وحاضنة لأقسى الأصوليات الشيعية.

وبالنظر بعين ثاقبة والعودة للوراء قليلا، سيتضح أن الدولتين تعيشان حربا طاحنة من وراء ستار. ما الدليل؟ الدعم التركي لأذربيجان "ذات الأغلبية الشيعية"، التي استعادت إقليم "ناغورنو قره باغ"، من أرمينيا "المسيحية"، حليفة إيران!

هنا ينجلي التناحر بين الدولتين. فتركيا تقف مع أذربيجان المكونة في الغالب من فئة تنتمي للمذهب الشيعي نفسه المتبع في إيران. بينما تساند طهران شريحة من الأرمن المسيحيين ضد أبناء مذهبها، فقط لأنهم أعداء تاريخيون لأنقرة. إنه أمر مثير للضحك والاشمئزاز.

هل واشنطن مستفيدة؟ نعم. بوجودها بجانب الأكراد في الشمال السوري، تحت ذريعة حماية الأقليات. وهو مبرر كاذب. فلا تهتم الولايات المتحدة بالأقليات، وإلا كان الأجدر منعها لتل أبيب من ترهيب البشر في قطاع غزة، فهم أقلية مجردة من السلاح، مقابل إسرائيل التي تمارس أبشع أنواع القتل بحقهم.

ماذا عن التنين الصيني الذي ساند نظام الأسد في مجلس الأمن؟ خارج الخدمة. كانت سوريا بالنسبة له فرصة لمناهضة أمريكا.

أين الدب الروسي من المشهد؟ حاضر. حصد حزمة مكاسب، وخسر شيئا واحدا فقط. كسب بقاء قواعده على الأراضي السورية. والإطلالة على المتوسط. والتخلص من أعباء نظام الأسد. والتركيز في الحرب الأوكرانية. حتى احتضانه لبشار الفار مكسب، لأنه يؤسس لمواجهة العالم بمحاكمه وقوانين عدله.

ماذا خسر؟ خسر صورته أمام المجتمع الدولي، كونه قدم نفسه كمنقذ لنظام كان على وشك السقوط، من باب فرض رأيه دوليا، واستعادة شكل الدولة العظمى التي يسعى لها فلاديمير بوتين.

إن سوريا ليست مساحة لتصفية الحسابات. ولا كعكة يتقاسمها الغرباء. إنها لأهلها. وللعرب. ولـ"الله أكبر. وأجراس الكنائس". خروجها عن ذلك السياق؛ سيحولها حلبة للوحوش المتصارعة. ويصبح انتصار الشعب "فرحة مجروحة".. في أرض النار.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق