الشارقة-«الخليج»
لم يكن عام 2024 في الحرب الدائرة في أوكرانيا مختلفاً عن سابقه، لكنه شهد تحولات عسكرية وسياسية باتت تمهد لصفقة تلوح في الأفق لإنهاء هذا الصراع الخطر. فقد تجاوزت الحرب حدودها الثنائية، لتأخذ طابع المواجهة متعددة الأطراف، أو كما يصفها البعض، حرباً بالوكالة. على أحد الجانبين، تقف روسيا وحلفاؤها، بينما على الجانب الآخر تقف أوكرانيا، مدعومة من الغرب بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومع استمرار الطرفين في تعزيز تحالفاتهما لتحقيق النصر، بدأت بعض الأصوات تدعو إلى وضع حد لهذا النزاع، الذي وصفه الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، ب «المجنون»، وفي ضوء ذلك يمكن استشراف آفاق الحل وفرص إنهاء المواجهة.
سعت روسيا إلى توطيد علاقاتها مع الدول المناهضة للولايات المتحدة والغرب عموما، متبنية استراتيجية لتعزيز تحالفاتها مع كوريا الشمالية والصين وإيران. وقد أثار هذا التوجه قلق دوائر صنع القرار في الغرب، التي ترى في هذه التحالفات مؤشرات على تحول الصراع الروسي الأوكراني إلى مواجهة أوسع نطاقاً بين معسكرين متنازعين.
وضمن هذا الإطار، نجحت روسيا في تعزيز علاقاتها مع كوريا الشمالية من خلال توقيع معاهدة «الشراكة الاستراتيجية» التي دخلت حيز التنفيذ في يونيو الماضي. وتنص هذه الاتفاقية على التعاون بين البلدين للتصدي للعقوبات الغربية، وتلزم كلا الطرفين بتقديم مساعدة عسكرية «دون تأخير» في حال تعرض أحدهما لهجوم، والتعاون المشترك لصد هذا الاعتداء.
منذ دخول المعاهدة حيز التنفيذ، شهدت العلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ تطوراً ملحوظاً. وقد تجسد ذلك في تبادل الزيارات رفيعة المستوى، أبرزها زيارة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى موسكو. وجرى، خلال هذه الزيارة، بحث التعاون في مجالات تبادل المعلومات والتقنيات العسكرية، ما يعكس طموح روسيا للاستفادة من الخبرات العسكرية لكوريا الشمالية. وفي المقابل، تسعى بيونغ يانغ للحصول على التكنولوجيا المتقدمة والخبرات القتالية الروسية لتعزيز قدراتها الدفاعية.
ورغم إعلان الصين المتكرر عن تبنيها موقف الحياد في الصراع الأوكراني، تشهد العلاقات الروسية الصينية تنامياً ملحوظاً في مجالات التعاون الدبلوماسي والعسكري. وبينما تضغط الدول الغربية على بكين للانحياز ضد موسكو، تظل الصين متمسكة بموقفها الرافض لإدانة روسيا، وتواصل دعمها في المحافل الدولية.
هذا الموقف الذي يعتبره الغرب غير مقبول، لم يثنِ الصين عن تعزيز علاقاتها مع روسيا، حيث تشهد الشراكة بين البلدين توسعا مستمرا يشمل مختلف المجالات.
من الواضح أن بكين تسعى إلى الموازنة بين الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية مع موسكو ومواجهة الضغوط الغربية، ما يجعل هذا التحالف محط اهتمام العالم ومصدر قلق متزايد للدول الغربية.
فيما يتعلق بالعلاقات مع إيران، أصبحت الشراكة بين الطرفين تمتد إلى العديد من المجالات، بما في ذلك التعاون العسكري، والاقتصادي، والدبلوماسي، والتكنولوجي. ويهدف هذا التحالف أولاً إلى تعزيز قدراتهما المشتركة في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة.
ولا يقتصر التعاون بين روسيا وإيران على تعزيز القدرات العسكرية، بل يشمل أيضاَ تبادل الأسلحة المتطورة مثل الطائرات المسيّرة، التي باتت عنصراً حاسماً في النزاعات الحديثة. ويعمل البلدان حالياً على توقيع اتفاق تعاون شامل يعزز شراكتهما المستقبلية.
دعم غربي لكييف
في المقابل، تسعى أوكرانيا للحصول على العضوية الكاملة في حلف «الناتو». ورغم نجاحها في بناء علاقات قوية مع دول الحلف، إلا أن عضويتها لا تزال بعيدة المنال، إذ تواجه عقبات عديدة أبرزها المخاوف الأوروبية من تصعيد الصراع مع موسكو، في الوقت الذي قدمت فيه الدول الغربية شتى أنواع الأسلحة إلى أوكرانيا، لكن ذلك الدعم لم يحدث أي تغيير جوهري في المعادلات الميدانية.
ومنذ فبراير 2022، بلغت قيمة المساعدات المالية الغربية غير العسكرية لأوكرانيا خلال 3 سنوات 238.5 مليار دولار، وفقاً لحساب أجرته وكالة «نوفوستي» بناء على بيانات وزارة المالية الأوكرانية. ولكن حجم المساعدات العسكرية تبدو أضعاف ذلك، وفق تقارير غير رسمية. لكن هذا الدعم لم يكن مفيدا، بل ساعد على التصعيد في المعارك والقصف المتبادل، والذي يمكن قراءته كرسائل متبادلة بين روسيا والغرب، لكنها رسائل مكتوبة بلغة الحديد والنار. وقد انعكست هذه الرسائل على أرض الواقع من خلال التصعيد المستمر والهجمات المتبادلة، حيث تسعى روسيا إلى تحقيق مكاسب ميدانية تمهيداً لأي مفاوضات قادمة.
في هذا السياق، كشفت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، بالأرقام، عن هذه المكاسب. وأوضحت أن الجيش الروسي تقدم بأكثر من 725 كيلومتراً مربعاً داخل الأراضي الأوكرانية خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في تقدم هو الأكبر منذ أكثر من عامين في شرق أوكرانيا. كما أشارت الصحيفة إلى أن مكاسب روسيا في أكتوبر/تشرين الأول بلغت 610 كيلومترات مربعة، إلا أن التقدم الكبير خلال الشهر الماضي رفع إجمالي مكاسب موسكو في عام 2024 إلى ستة أضعاف ما حققته في عام 2023، رغم توغل القوات الأوكرانية في منطقة دونيتسك.
هذا التقدم يُظهر أن روسيا، على الرغم من الضغط الغربي والدعم المستمر لأوكرانيا، تسعى لاستعادة زمام المبادرة وفرض واقع جديد على الأرض يضعها في موقع أقوى خلال أي محادثات مستقبلية.
ضوء في نهاية النفق
على الرغم من الصورة القاتمة التي يخيم عليها شبح الصراع واحتمالية تطوره إلى نزاع نووي، يلوح بريق أمل خافت في نهاية النفق. بدأت بعض الأصوات تدعو إلى إنهاء الحرب، ورغم خفوتها، إلا أن هذه الدعوات اكتسبت زخماً جديداً بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وترامب، المعروف بصراحته ووضوح مواقفه، لم يتردد في التعبير عن رغبته في إنهاء الحرب. وعرض لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمناقشة سبل تحقيق هذا الهدف، وهو ما قوبل باستجابة سريعة من موسكو. ورحب الكرملين بتصريحاته عبر رسائل إيجابية وودية، في مشهد يعكس ملامح «غزل سياسي» بين الطرفين.
من الواضح أن ترامب، بصفته رجل أعمال متمرس، ينظر إلى الصراع من منظور «الربح والخسارة»، فهو لا يدعو إلى إنهاء الحرب حباً في أوكرانيا أو إيماناً بضرورة السلام فحسب، بل انسجاماً مع شعاراته الانتخابية وسعياً لتخفيف الأعباء عن الخزينة الأمريكية التي تستنزفها تكاليف دعم هذا الصراع.
خلال القمة التي جمعته بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 7 ديسمبر 2024 في قصر الإليزيه، أعرب ترامب عن موقفه بعبارات واضحة قائلاً: «إن العالم ينقاد إلى شيء من الجنون»، بينما أبدى زيلينسكي مرونة غير مسبوقة بتصريحه: «نريد جميعاً أن تنتهي هذه الحرب في أقرب وقت وبطريقة عادلة».
الأهداف الروسية
تتمثل المطالب الروسية في حياد أوكرانيا ونزع سلاحها، حيث تُصر موسكو على أن تبتعد كييف عن طموحات الانضمام إلى حلف الناتو مع ضمانات أمنية متبادلة. كما تسعى روسيا إلى تعزيز حقوق المتحدثين بالروسية في أوكرانيا، بما في ذلك إلغاء القوانين التي تحظر استخدام اللغة الروسية، وحماية الأقليات من الجماعات المتطرفة.
علاوة على ذلك، تطالب روسيا بالاعتراف بضم شبه جزيرة القرم واستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك. هذه المطالب تعكس الرؤية الروسية لحل النزاع، لكنها في الوقت نفسه تُعقّد المساعي الدولية لتحقيق سلام مستدام.
وأكدت موسكو استعدادها للتنازل عن مطلب جعل اللغة الروسية لغة رسمية ثانية، مقابل تخفيف القيود المفروضة على استخدامها.
المطالب الأوكرانية
في المقابل، عرضت أوكرانيا مجموعة من المطالب في إطار التفاوض مع روسيا، حيث ركزت على الحفاظ على سيادتها وضمان أمنها، مع إبداء مرونة في بعض القضايا. أبرز هذه المطالب كان ضرورة انسحاب القوات الروسية من المناطق التي سيطرت عليها بعد 24 فبراير 2022، بما في ذلك المناطق الجنوبية المطلة على بحر آزوف والبحر الأسود، والمناطق الواقعة شرق وشمال العاصمة كييف.
ومع ذلك، لم تشمل هذه المطالب الإشارة إلى شبه جزيرة القرم أو منطقتي دونيتسك ولوهانسك، ما يعكس موقفاً عملياً يهدف إلى تحقيق وقف إطلاق النار دون تعقيد المحادثات بشروط قد تكون غير قابلة للتفاوض. كما أبدت أوكرانيا استعدادها للتخلي عن السعي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، رغم أنه كان جزءاً من دستورها الوطني. هذا الموقف جاء بتأثير من الضغوط الدولية، وخاصة الأمريكية، ما يعكس محاولة لتحقيق توازن بين مطالب موسكو والحفاظ على استقلال أوكرانيا الاستراتيجي.
طالبت كييف بضمانات أمنية من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، كبديل عن مظلة حلف الناتو. في الوقت نفسه، أكدت أوكرانيا رفضها الاعتراف بانفصال شبه جزيرة القرم ومناطق دونيتسك ولوهانسك، لكنها أبدت مرونة في تأجيل مناقشة هذه القضايا إلى مرحلة لاحقة، ما يعكس إدراكها لصعوبة قبول هذه المطالب الروسية في المرحلة الحالية.
وأظهرت أوكرانيا انفتاحاً على اتخاذ خطوات لحظر بعض الجماعات النازية وتغيير أسماء الشوارع التي ترتبط برموز تاريخية مثيرة للجدل، كمحاولة لتهدئة المخاوف الروسية.
ورغم هذه التحركات، لا تزال الفجوة قائمة بين المطالب الأوكرانية والطموحات الروسية، بل إن هناك تبايناً كبيراً في الأهداف، ما يجعل التوصل إلى اتفاق سلام مستدام أمراً شاقاً يتطلب تنازلات كبيرة من الطرفين.
موسكو توسع عقيدتها النووية لرد الهجمات
في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أدخلت موسكو تعديلاً جوهرياً على عقيدتها النووية، شمل تخفيف قيود استخدام الأسلحة النووية، لتشمل إمكانية استخدامها «للرد على هجمات بأسلحة تقليدية تهدد سيادة روسيا أو حلفائها». هذا التحول يمثل تغييراً واضحاً في استراتيجيتها، حيث انتقلت من مفهوم الردع التقليدي إلى نهج أكثر مرونة وشمولية.
لم يعد السلاح النووي في العقيدة الروسية مقتصراً على الرد على هجمات نووية، بل أصبح خياراً مطروحاً لمواجهة أي عدوان تقليدي أو تصعيد عسكري يمس أمن روسيا أو حلفائها. وأكدت موسكو بوضوح أنها لن تتردد في الرد على أي تصعيد، موجهة تحذيراً صريحاً للغرب بقولها: «حدود روسيا وحلفائها ليست ساحة مفتوحة للمغامرات العسكرية المدعومة من الغرب».
هذا التعديل في العقيدة النووية يأتي كرسالة قوية للغرب، مفادها أن موسكو عازمة على استخدام كل أدواتها الاستراتيجية لحماية أمنها القومي وتعزيز مكانتها الدولية. وبذلك، تسعى إلى إعادة صياغة معادلات الردع على الساحة العالمية، واضعة حدوداً واضحة لأي تدخل عسكري قد يهدد مصالحها أو مصالح حلفائها.
وشمل تعديل العقيدة النووية الروسية تخفيف قيود استخدام الأسلحة النووية، بحيث يمكن لها «استخدام السلاح النووي للرد على هجمات بأسلحة تقليدية تهدد سيادة روسيا أو حلفائها». في تحول واضح في استراتيجيتها، من مفهوم الردع التقليدي إلى نهج أكثر مرونة وشمولية. وبذلك فإن السلاح النووي لم يعد محصوراً بالرد على الهجمات النووية، بل أصبح خياراً مطروحاً أمام أي عدوان تقليدي أو تصعيد عسكري قد يمس أمن روسيا أو حلفائها. وتبدو هذه التغيرات في العقيدة النووية بمثابة تحذير صريح للغرب إذا استمر في تجاوز الخطوط الحمراء الروسية.
دعم أوكرانيا بين التأييد والتحفظات الأوروبية
ترى واشنطن وبروكسل أن روسيا تمثل أكبر تهديد لأمنها، وهو ما عبرت عنه رئيسة وزراء إيطاليا، جورجا ميلوني، خلال قمة فنلندا في 22 ديسمبر 2024، التي جمعت زعماء إيطاليا والسويد واليونان، إلى جانب مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، وشاركها الرأي رئيس الوزراء الفنلندي، بيتيري أوربو، الذي وصف روسيا بأنها «تهديد دائم وخطر»، مشددًا على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي ودعم أوكرانيا.
المواقف الغربية الأخرى لا تختلف كثيراً عن هذا التصور، إذ ترى دول الاتحاد الأوروبي أن الانخراط في الحرب ضد روسيا يشكل «ضرورة أمنية».
من هذا المنطلق، كان الدعم الغربي لكييف مشروطاً بعدم استخدام الأسلحة الغربية لضرب العمق الروسي، ولكن هذا الشرط تراخى بعد أن سمح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 19 نوفمبر 2024، باستخدام صواريخ «أتاكمز» الأمريكية بعيدة المدى ضد أهداف داخل روسيا.
وسارعت أوكرانيا إلى استغلال هذه الصواريخ لضرب مستودع ذخيرة في منطقة بريانسك الروسية، ما أدى إلى تصعيد جديد مختلف في حدته.
ورغم هذا، استمرت مواقف الداعمين الأوروبيين على حالها، وحافظت ألمانيا على رفضها لاستخدام أسلحتها في ضرب العمق الروسي، ما أثار انتقادات زيلينسكي، تجاه المستشار الألماني، أولاف شولتس، ورداً على هذه الانتقادات، قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مارك روته «ليس من حق زيلينسكي تحديد ما يجب أن يقدمه الحلفاء، واصفاً هذه الانتقادات بأنها «مجحفة».
الاستخدام الأوكراني لصواريخ «أتاكمز» الأمريكية أدى إلى تغيير قواعد اللعبة ونقل الصراع إلى مستوى جديد، وجعل روسيا تراجع عقيدتها النووية.
0 تعليق