الصراعات الأيديولوجية والفصائلية

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

شهدت العلاقات بين هونغ كونغ وبكين تحولات جوهرية على مدار العقد الماضي، تداخلت فيها الأيديولوجيا والسياسة بشكل معقد، ما أدى إلى تصاعد التوترات والصدامات بين الطرفين. هذا السياق التاريخي والسياسي الحافل يعكس تبايناً بين نموذجين سياسيين: النموذج الديمقراطي الذي تطمح إليه شريحة واسعة من سكان هونغ كونغ، والنظام المركزي الذي تفرضه بكين.
يتناول هذا الكتاب التحولات الأيديولوجية والصراعات السياسية التي شهدتها العلاقات بين هونغ كونغ والبر الرئيسي الصيني من عام 2012 إلى الوقت الحاضر، وهو عمل تحليلي عميق يكشف التوترات التي تصاعدت نتيجة تباين السياسات والتوجهات الفكرية بين الجانبين. يعرض الكتاب بشكل منهجي التطور الأيديولوجي في البر الرئيسي الصيني من القومية الليبرالية إلى القومية المحافظة منذ أواخر 2012، مقابل تنامي الراديكالية المحلية في هونغ كونغ بعد 2014.
يستكشف المؤلف تصاعد تيارات محلية متشددة في هونغ كونغ، خاصة بعد حراك 2014، ما أسهم في تغيير طبيعة العلاقة مع بكين وأدخل صراعات داخلية وفصائلية. ومع فرض قانون الأمن الوطني 2020، شهدت هونغ كونغ استقراراً سياسياً نسبياً، لكن هذا الاستقرار جاء على خلفية سياسة صارمة من بكين تستند إلى حماية الأمن القومي، مع الحفاظ على نهج اقتصادي براغماتي يخدم المصالح الصينية. يشير الكتاب إلى أن هذا التحول لا ينحصر فقط في إطار العلاقات الصينية-الهونغ كونغية، بل يمتد ليؤثر في العلاقة مع تايوان في السنوات المقبلة، حيث يتوقع المؤلف أن تتبع بكين استراتيجية مشابهة تقوم على الأمن القومي والاعتبارات الاقتصادية.
صدامات أيديولوجية معقدة
يشير المؤلف إلى أنه منذ عام 2003 وحتى عام 2019، أصبحت الصدامات الأيديولوجية أكثر تعقيداً وخطورة، بفعل التوترات الداخلية والانقسامات الفئوية بين الديمقراطيين المحليين، الراديكاليين والمعتدلين، وبين الحكومة المركزية في بكين. أسهمت موجات الاحتجاجات، مثل تلك التي اندلعت في 2014 و2019، في تصاعد المواجهات، ما دفع بكين إلى اتخاذ خطوات حاسمة لضبط الأوضاع وفرض قانون الأمن الوطني في 30 يونيو/حزيران 2020. شكّل هذا القانون نقطة تحول كبيرة في تاريخ هونغ كونغ السياسي، حيث أسس لنظام جديد يعتمد على الولاء المطلق لبكين، ليحل محل التعددية السياسية التقليدية التي كانت تعتمد على العلاقات بين الأطراف المختلفة.
بناءً على هذا التحول، سعت الحكومة المركزية إلى إعادة هيكلة النظام السياسي في هونغ كونغ لتضمن سيطرتها المطلقة، حيث أصبح مفهوم «بلد واحد، نظامان» خاضعاً لتفسير صارم من قبل السلطات الصينية.
ارتكز هذا التغيير على فرض سياسات وطنية صارمة وتصفية القوى المعارضة، سواء من الديمقراطيين، الراديكاليين أو المعتدلين، الذين سعوا في بعض المراحل إلى التفاوض مع بكين، لكنهم فشلوا في تهدئة الاحتجاجات أو السيطرة عليها. ومن هنا، أُحبطت تطلعات بعض سكان هونغ كونغ إلى الحفاظ على نموذجهم الديمقراطي التعددي، حيث وجدت سلطات جمهورية الصين الشعبية في الأحداث الأخيرة، خاصة احتجاجات 2019، تهديداً خطراً لأمنها القومي وسلطتها السياسية.
في هذا السياق، ظهر الصراع بين مفهوم الديمقراطية الغربية الذي يتطلع إليه الكثير من سكان هونغ كونغ، وبين النموذج السياسي الذي تتبناه بكين. اعتبرت الصين أن التحركات الديمقراطية في هونغ كونغ ليست سوى «ثورة ملونة» تهدف إلى تقويض سيادتها، حيث أصبحت الاحتجاجات مرتبطة بقوى خارجية تسعى، من وجهة نظر بكين، لاستخدام هونغ كونغ «كحصان طروادة» للتأثير بالنظام السياسي في البر الرئيسي. ونتيجة لذلك، اتخذت الصين موقفاً صارماً تجاه أي حركة سياسية أو مدنية تتعارض مع رؤيتها السياسية والأمنية، ما أدى إلى تطبيق القانون الأمني الجديد بحزم وحظر أي نشاط يهدد استقرار النظام.
هيمنة سياسية كاملة لبكين
يسلط هذا الكتاب الضوء على التوترات بين النظامين السياسيين، حيث يرى العديد من سكان هونغ كونغ، أن النظام الجديد يقوّض الحريات السياسية والاجتماعية التي وُعدوا بها في إطار «بلد واحد، نظامان».
ومع ذلك، من منظور السلطات الصينية، فإن هذه التدابير كانت ضرورية لحماية السيادة الوطنية والأمن القومي، خاصة بعد تصاعد الاحتجاجات العنيفة، واستهداف رموز الحكومة الصينية والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة.
يُظهر الكتاب كيف أن سوء تقدير القوى الديمقراطية المحلية لقدرات النظام الصيني أدى إلى تدخل بكين بشكل أكثر حدة، حيث اعتبر الحزب الشيوعي أن الحفاظ على الاستقرار في هونغ كونغ، أمراً حتمياً للحفاظ على سيطرته السياسية.
ويستعرض الكتاب أيضاً تطور المواقف السياسية في هونغ كونغ منذ إعادة توحيدها مع الصين، حيث سعت بكين إلى فرض نظام سياسي جديد يقوم على الولاء الأعمى للنخب الوطنية المؤيدة لها. وبحلول 2023، أصبحت الهيمنة السياسية لبكين شبه مكتملة من خلال تعديل النظام الانتخابي وإنشاء لجنة انتخابية جديدة تضم 1500 عضو، مسؤولة عن اختيار أعضاء المجلس التشريعي والرئيس التنفيذي. أسهمت هذه التعديلات في تقليص دور القوى المعارضة وتهميش أي محاولة لإحياء الديمقراطية التعددية في هونغ كونغ.
في الوقت نفسه، يطرح الكتاب رؤية تاريخية لمبدأ «بلد واحد، نظامان»، الذي اقترحه الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ كحل لمستقبل هونغ كونغ وتايوان.
ورغم أن هذا المبدأ كان يهدف إلى ضمان الحفاظ على النظام الاقتصادي والاجتماعي لهونغ كونغ لمدة خمسين عاماً بعد إعادتها إلى السيادة الصينية، فإن التطبيق العملي لهذا المبدأ أثار جدلاً كبيراً، خاصة بعد فرض قانون الأمن الوطني. يرى الكتاب أن هذا الوضع أدى إلى رفض النظام التايواني لأي محاولة مشابهة لتطبيق مبدأ «بلد واحد، نظامان» على الجزيرة، حيث اعتبرته السلطات التايوانية دليلاً على الاستبداد السياسي لبكين.
أخيراً، يتناول الكتاب العلاقة بين الوضع السياسي في هونغ كونغ وتأثيره في العلاقات الصينية-الغربية. منذ الاحتجاجات المناهضة لقانون التسليم في عام 2019، أصبحت هونغ كونغ ساحة للمواجهة غير المباشرة بين الصين والدول الغربية، حيث انتقدت الولايات المتحدة وبريطانيا سياسات بكين واتهمتها بانتهاك الحريات وخرق «إعلان المبادئ المشتركة». في المقابل، اعتبرت بكين هذه الانتقادات تدخلاً في شؤونها الداخلية ومحاولة لإضعاف سيادتها الوطنية.
يمتاز الكتاب الصادر عن جامعة هونغ كونغ في 304 صفحات في 2024، بأسلوب أكاديمي رصين مدعوم بالوقائع التاريخية والدراسات السياسية. يُظهر المؤلف قدرة كبيرة على تفكيك السياسات المعقدة وقراءة المشهد السياسي ضمن إطار أوسع يشمل الصراع الأيديولوجي وتأثيره في القرارات الاستراتيجية.
وينجح الكتاب في تقديم رؤية شاملة للتحولات الكبرى التي طرأت على هذه العلاقات، مُفسراً أسباب التوتر والاستقرار الأخير، مع إشارة واضحة إلى تداعياتها المستقبلية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق