قرن من الفوضى

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يعاني النظام الدولي تناقضات جوهرية في تنظيم العلاقة بين الحروب والقوانين التي تسعى إلى تقييدها، إذ تشكلت مفاهيم الحرب والسلام عبر صراعات فكرية وسياسية معقدة، تداخلت فيها المصالح الوطنية مع تطلعات الاستقرار العالمي. هذه التناقضات تسلط الضوء على أهمية إعادة قراءة التاريخ القانوني، لفهم أعمق للتفاعلات الدولية وبناء نظام أكثر عدالة وتوازناً يعكس طموحات الشعوب نحو السلام والتنمية.

يقدم هندريك سيمون في هذا الكتاب قراءة نقدية للتاريخ غير المروي للنظام الدولي الحديث الذي ينظم استخدام القوة، متناولاً أسئلة معقدة حول الجوانب النظرية والسياسية التي شكّلت هذا النظام.

يبدأ سيمون في كتابه - الصادر حديثاً ضمن 432 صفحة ضمن سلسلة «تاريخ ونظرية القانون الدولي» في مطبعة جامعة أكسفورد - بتحدي الرواية التقليدية التي تفترض أن القرن التاسع عشر كان عصراً من الفوضى القانونية الدولية، حيث كانت الدول تتمتع بحرية مطلقة في شن الحروب؛ إذ اعتبرت ذلك ضرورة سياسية. وفقاً لهذه الرواية، فإن النظام الدولي الحديث الذي يحد من حرية الحرب لم يتبلور إلا مع تأسيس عصبة الأمم، وتوقيع ميثاق كيلوغ-برياند، وإنشاء ميثاق الأمم المتحدة.

ومع ذلك، يشكك سيمون في صحة هذه الرواية، مشيراً إلى غياب دليل تجريبي يُثبت وجود «الحق الحر في شنّ الحروب» كقاعدة قانونية فعلية في القرن التاسع عشر. ويُظهر أن هذه الفكرة، التي تُعد من أكثر الأفكار إثارة للجدل في تاريخ القانون الدولي، ليست سوى بناء نظري من ابتكار فقهاء قانونيين واقعيين في ألمانيا الإمبراطورية.

يتناول الكتاب الجذور السياسية والفكرية لهذه الفكرة ويُظهر كيف أن هؤلاء الفقهاء الألمان استخدموا هذه النظرية لمعارضة التيار الليبرالي السائد في أوروبا آنذاك. الأغرب من ذلك أن هذا التصور الخاص بالنظام الألماني، والمعروف ب«نظرية الطريق الخاص»، أصبح مقبولاً عالمياً في التواريخ الدولية بعد الحربين العالميتين.

يُظهر الكتاب أن التحول من نظام «الفوضى» إلى النظام الحالي لم يكن تطوراً بالمعنى التقليدي، بل جاء نتيجة لصراعات فكرية وسياسية عميقة، أسهمت فيها اتجاهات متعددة ومتناقضة. كما يتناول الكتاب تحليلاً عميقاً لمواقف المجتمعات والدول تجاه العنف وتبريراته عبر التاريخ، مع التركيز على العلاقات بين الدول وكيف تعاملت مع مفهوم الحرب كضرورة سياسية أو كحق مشروع. من خلال استعراض تاريخي يمتد لآلاف السنين، يوضح الكتاب كيف رافقت الأفكار والمعايير الثقافية استخدام العنف، وكيف أثرت التطورات الإدارية وظهور الكتابة في تشكيل هذه المفاهيم وصياغتها ضمن إطار فكري وقانوني.

يسلط الكاتب الضوء على النقاشات الرئيسية التي أثرت في فهم العلاقة بين العنف والقانون الدولي، مع التركيز على القرن التاسع عشر كمرحلة محورية في تشكيل الأعراف الدولية. تتراوح الروايات التاريخية لهذه الحقبة بين تصويرها كعصر «السلام على امتداد المئة عام»، حيث بدت الحروب محدودة نسبياً، وبين تصويرها كفترة السيادة المطلقة التي اعتبرت الحروب جزءاً من الطبيعة السياسية. هذه التفسيرات المختلفة تحمل انعكاسات مباشرة على تقييم دور الأعراف والمعايير في الحد من النزاعات الدولية.

يستعرض المؤلف كيفية تطور مبررات الحرب ضمن سياق القانون الدولي الأوروبي الكلاسيكي، الذي اصطدم لاحقاً بأفكار جديدة نابعة من الثورة الفرنسية ومؤتمر فيينا. ويُظهر كيف أسهمت هذه الأحداث في تأسيس نظام دولي أكثر تنظيماً، حيث أصبحت القوانين أداة أساسية لتبرير استخدام القوة أو تقييدها. يبرز التداخل بين القانون والأفكار السياسية والأخلاقية والدينية في النقاش حول شرعية العنف، وكيف أسهمت هذه العوامل في صياغة مفاهيم جديدة تحكم العلاقات الدولية.

الحروب والقانون الدولي

يضع سيمون في المقدمة، الأسئلة المحورية التي يسعى الكتاب للإجابة عنها: هل كان القرن التاسع عشر عصراً للفوضى الحقيقية أم أن هذا التصور مجرد أسطورة تاريخية؟ كيف تطورت فكرة الحرب من كونها «حقاً مطلقاً» إلى كونها محدودة بالقوانين الدولية؟ ومن أين جاءت فكرة «السلام من خلال القانون»؟ يقدم الكتاب أطروحة تفيد بأن القيود على الحروب لم تكن وليدة القرن العشرين، بل تمتد جذورها إلى «القرن التاسع عشر الطويل» الذي شهد تحولات سياسية وفكرية عميقة أسهمت في تشكيل ملامح النظام الدولي الحديث.

يركز القسم الأول من الكتاب على التحولات الكبرى التي أعادت صياغة مفاهيم الحرب والقانون خلال القرن التاسع عشر، خاصة في الفصلين الأول والثاني منه، ثم يسلط المؤلف في الفصل الثالث بعنوان «من الثورة إلى النظام» الضوء على الانتقال من الحروب الثورية التي استهدفت إسقاط الأنظمة القديمة إلى الحروب المنظمة التي ركزت على إعادة بناء نظام عالمي جديد. يُظهر سيمون كيف أسهمت هذه الحروب في بناء توازنات سياسية وقانونية جديدة أدت إلى ظهور مفهوم الحرب «المبررة»، وهو مفهوم جمع بين المصالح السياسية للدول والإطار القانوني الذي يضفي الشرعية على أفعالها.

يستعرض المؤلف في الفصل الرابع بعنوان «ولادة نظام دولي جديد» عملية تشكيل نظام دولي ناشئ في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، حيث بدأ العالم يشهد محاولات لجعل الحروب أداة مشروعة في سياقات معينة. يشرح كيف أن النظام الدولي لم يكن مجرد شبكة من القوانين والمعاهدات، بل كان مزيجاً من المصالح السياسية والنظريات الفكرية التي هدفت إلى خلق إطار لتنظيم الصراعات.

ويركز الفصل الخامس «القوة والمشروعية» على الجدل المستمر بين «القوة» و«الحق» في تبرير الحروب. يشرح سيمون كيف برزت مفاهيم متعددة للمعايير في تلك الفترة، حيث سعت الدول إلى تبرير حروبها بطرق مختلفة، بما في ذلك الاعتماد على الدين، القومية، والمصالح السياسية. ويظهر المؤلف في الفصل السادس «السلام في ظل الحرب» كيف أن فكرة «السلام من خلال القانون» لم تكن مجرد وعد لتحقيق الاستقرار، بل كانت وسيلة لتبرير استخدام القوة تحت مظلة قانونية. يناقش هذا الفصل الكيفية التي تم بها استخدام القانون الدولي لتحقيق مصالح الدول الكبرى، مما يجعل القانون أداة مزدوجة للسلم والنزاع.

الحروب في المفاهيم الألمانية

ويتناول القسم الثاني من الكتاب نشأة وتطور المفاهيم الألمانية الخاصة بتبرير الحرب ودورها في تشكيل النظام الدولي. يربط المؤلف في الفصل السابع «تقاليد كلاوزفيتز» بين الأفكار العسكرية لكارل فون كلاوزفيتز والسياسات الألمانية في القرن التاسع عشر. يُبرز كيف استخدمت ألمانيا مفهوم «حق الحرب» كجزء من سياستها التوسعية، معتمدة على تقاليد فكرية ترسخ أهمية القوة العسكرية في بناء الدولة.

ويظهر سيمون في الفصل الثامن بعنوان «هيمنة الخطاب الألماني» كيف أصبحت الروايات الألمانية عن الحرب والنظام الدولي جزءاً من التيار الرئيسي للتأريخ الدولي بعد الحربين العالميتين. ويناقش كيف أسهمت هذه الروايات في خلق أسطورة «الطريق الألماني الخاص»، وهي رؤية تُقدم ألمانيا كحالة استثنائية في تطورها السياسي والقانوني. ويركز الفصل التاسع بعنوان «سياسات التبرير في الإمبراطورية الألمانية» على الإمبراطورية الألمانية، وكيف تبنت سياسات تبرير الحرب كوسيلة لمعارضة التيارات الليبرالية في أوروبا. يُظهر سيمون كيف استخدمت ألمانيا الخطابات القانونية والفكرية كأداة لتعزيز مصالحها القومية والتوسع خارج حدودها.

ويعيد المؤلف في الفصل العاشر بعنوان «بين الفوضى والنظام» تقييم التأريخ التقليدي الذي يرى التحول من «الفوضى» إلى «النظام» كعملية تطورية طبيعية. بدلاً من ذلك، يُبرز أن هذه التحولات كانت ملأى بالصراعات والتناقضات، حيث اصطدمت رؤى متعددة حول دور الحرب والقانون في النظام الدولي. وفي الفصل الأخير، يقدم سيمون رؤية شاملة حول العلاقة بين الحرب والمعايير القانونية الدولية، ويدعو إلى إعادة النظر في التاريخ القانوني الدولي لفهم الحاضر بشكل أعمق واستشراف المستقبل بنظرة أكثر شمولية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق