لبنان والوقوف على حَدّ السكين

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لبنان والوقوف على حَدّ السكين, اليوم الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 10:32 مساءً

نصف قرن مضى، والثعابين تقيم في زوايا المنطقة. وجدت مرتعها ومستقرها الأخير. عثرت على من يشابهها في الأفكار المسمومة. ومنذ ذلك الوقت لم يهدأ هذا الجزء من العالم. الحمم البركانية تتقاذف، والنار لا تزال مشتعلة، حتى ما قد توحي أنها خمدت، لا يزال جمرها متوقدا.

نصف قرن مضى؛ وليل الهامدين يسيطر على أجزاء من العالم العربي. سريع هو الزمن، وبطيء هو الوقت. والأمم منكوبة، ولقمة العيش عسيرة. الجوع بات صاحب الصوت الأعلى، وأقسى أنواع الجوع أن يبحث شخص ما، في مكان ما من هذا العالم، عما يسد به جوعه من سلال المهملات، وهذا متوفر في العالم العربي التعيس.

نصف قرن مضى؛ والكذب وخلط الأوراق مسيطر على المشهد. في لبنان دُمّر الحجر، وشُرّد البشر، وهناك يتوفر أخبث أنواع البشر، لا سيما من يتجاهل نوم الإنسان على الأرصفة وقارعة الطريق، ليتحدث عن النصر. في الحالة الأولى مأساة، وفي الثانية مهزلة.

نصف قرن مضى؛ والشعارات تسيطر على الذهنية العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ من تلك المعضلة التاريخية، أي تزييف الحقائق. حاليا على سبيل الاستدلال، هناك "طرف لبناني" يعيش نشوة النصر، وفي الحقيقة لا أحد خرج منتصرا من حرب توحيد الساحات مع قطاع غزة، لا حزب الله ولا إسرائيل. والتكريس لفكرة الانتصار خديعة للرأي العام والحواضن الشعبية، تكشف التيه الذي تسبب به مقتل "وليس استشهاد" زعيمه الروحي حسن نصر الله. هذا أولا.

ثانيا، فرغبة الحزب بعدم الحياد عن اتفاق الطائف - وهذا جاء على لسان الأمين العام الجديد نعيم قاسم، الذي قال في كلمته الأخيرة انتصرنا ورؤوسنا مرفوعة -، بعد أن حاول سلفه لسنوات إبطال مفعوله؛ عبر الدعوة لمؤتمر تأسيسي يكرس للهيمنة القادمة من الشرق، هو ترجمة لانكسار ينقصه الاعتراف، بأن مفهوم المقاومة الذي قفز عليه، وتمكن من تطويع الدولة اللبنانية له، مجرد خدعة جاء وقت نهايتها. ما الدليل؟ إن الميليشيا باتت متمسكة بشعرة معاوية، للبقاء في المشهد.

أعتقد أن لجوء حزب الله لاتفاق الطائف هو مجرد احتماء وتمترس خلفه، خشية خسارة كل شيء، بعد حرق جميع أوراقه.

السؤال، ماذا عن الدولة اللبنانية التي خرجت بمنظر المغلوب على أمرها؟ فقد قامت ولا تزال تقوم بدور خدمي ووظيفي للحزب. كيف؟ من خلال تحولها بحكومتها "رئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان"، لوسيط بين الميليشيا وإسرائيل، والمجتمع الدولي. وهذا له تفسيراته الخاصة التي قد تكون مرتكزة على الخوف مما تبقى من سلاح الحزب. وربما يعود الأمر لحالة الأسر التي جسدها الحزب للحياة السياسية في لبنان منذ عشرات السنين. فهذا لا يمكن تجاوزه بيوم وليلة، أو لمجرد تصفية الأمين العام وتحييد جزء من ترسانته.

الدور الخدمي الذي قصدت، يمكن استنتاجه من زيارات المبعوثين الأجانب لبيروت، الذين حضروا للسرايا الحكومية حيث نجيب ميقاتي، ولمقر البرلمان لدى السياسي العتيد نبيه بري.

وبري الذي قمع الزميلة الإعلامية بولا يعقوبيان من باب "الديمقراطية"، نظير مطالبتها بالتصويت على رئيس الجمهورية علناً، دون ورقة اقتراع في جلسة البرلمان الأسبوع الماضي، يصيح بأعلى الصوت متسائلا عن اللجنة المعنية بمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار، عقب اختراقه عدة مرات من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وعدم التزام الأحمق نتنياهو بالاتفاق ينبع من استغلاله أمرين، ما هما؟ الأول: الهوان التي يعاني منه الحزب، بعد أن هرول للموافقة على الاتفاق، وخلع رداء العنتريات، وهذا يتضح من خلال كلمة زعيمه نعيم قاسم الأخيرة، التي خلت من التهديد والوعيد. والبعض فسر ذلك من باب ضبط النفس. وهناك من رأى ذلك فرصة تاريخية يجب استغلالها، بعد أن تلقت الميليشيا درسا لن تنساه على مدى الزمن. والثاني: الارتباك الرسمي، وعدم وحدة الصف الحكومية والبرلمانية والشعبية، بمواجهة حزب الله داخليا، وإسرائيل خارجيا في آنٍ واحد.

بكل يأس، لا أملك إلا القول إن هذا لبنان. كيان فكرته مسروقة. وما تبقى منه يتم التنازع عليه من قبل تجار الموت، رغم وجود قلة من الصالحين، لا سيما من الطائفة المسيحية، التي خفت صوتها وطُمس تاريخها؛ وتحولت لمتفرجة.

إن ادعاء الانتصار على الآلة العسكرية التي شردت العباد وكسرت هيبة البلاد، لهوٌ من ضرب الخيال، الذي سيأتي يوم على معتنقه، لأن يلج في خانة الحساب طال الأمد أو قصر. حينها ستحترق فكرة اعتماد لوردات الحرب على لعبة نسيان الشعوب، التي يتصورون أنها تنجيهم من المقصلة. إنه سقوط عميق في اضمحلال التفكير السياسي.

صحيح أن النسيان راحة لكل مقصر، وعز للعاجز، وغرض للقاتل، وهدف لآلة طمس حقائق البدايات، وتزييف النهايات. لكن في المقابل يجب استيعاب أن نصف النصر هزيمة، والهزيمة خذلان، وأن للبشر في ذمة التاريخ دينًا وحكاية.

أتصور ألا أحد يمكنه إدراك ذلك، لأنهم غارقون في وحل السياسة المحفوف بالقتل والموت، كخيار لا قبله ولا بعده. ومرتمون حتى النخاع بأحضان الخارج.

إن الرجل الحكيم يستطيع أن يفهم من سؤال الأحمق أكثر مما يتعلمه الأحمق من جواب الحكيم.

لذا؛ فأقل ما يمكن قوله عن لبنان، إنه اعتاد على رائحة الدم، والأكفان، والقبور، والمقابر. ولا حل أمام شعبه أكثر من الوقوف.. على حَدّ السكين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق