الذكاء الاصطناعي صديق للصحفيين ومهدِّد لمستقبلهم.. مخاوف من التضليل ودعوات لضوابط ومواثيق شرف لاستخدامه (تحقيق)

الوطن 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الذكاء الاصطناعي صديق للصحفيين ومهدِّد لمستقبلهم.. مخاوف من التضليل ودعوات لضوابط ومواثيق شرف لاستخدامه (تحقيق), اليوم الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 09:05 مساءً

لم يكن مُدقق المعلومات والصحفى، أحمد جمال، يتوقع أن العمل الذى كان يستغرق منه عدة ساعات لإنجازه، سيكون بالإمكان إنجازه خلال دقائق أو ربما لحظات معدودة، بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعى.. فبعد أن كان يستخدم وسائل بدائية للتحقق من صحة صورة أو فيديو، أصبح الأمر مختلفاً مع انتشار وتطور أدوات «الذكاء الاصطناعى»، سواء من حيث السرعة أو الدقة أو نسبة النجاح.

حال «جمال» مثل حال كثير من الصحفيين الذين تحولوا لاستخدام تلك الأدوات المستحدثة لإتمام مهامهم اليومية، من بحث وتحليل بيانات والوصول للمصادر، وأيضاً اقتراح محاور وأفكار للتحقيقات والتقارير التى يعملون عليها، وتفريغ المقابلات الصوتية لنص مكتوب، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه لكتابة أخبار كاملة وإعادة صياغة الموضوعات وتصحيح أخطائها النحوية والمعلوماتية. لكن بالرغم من أهمية تلك الأدوات فى مساعدة الصحفيين وتوفير جهدهم ووقتهم، فإن الخبراء ينبهون فى المقابل إلى التأثيرات السلبية المحتملة التى ينطوى عليها استخدامها، بداية من إمكانية نشر معلومات مزيفة أو غير دقيقة أو منحازة بما يشكل خطراً على مصداقية المؤسسات الصحفية، وحتى تهديد الصحفيين فى أرزاقهم، مؤكدين ضرورة وضع ضوابط لاستخدام منتجات الذكاء الاصطناعى فى العمل الصحفى، وإضافة أكواد إلى مواثيق الشرف مهمتها السيطرة على تداخل تلك التطبيقات مع المهنة.

12321887731732039421.jpg

محرك «ثورة التكنولوجيا» يطرح تساؤلات حول مصير الصحافة

«الذكاء الاصطناعى أصبح أشبه بالمرشد أو الصديق الذى يُقدّم مقترحات ووجهات نظر قد تكون مختلفة عن وجهة نظرى. أحياناً أقبلها، وأحياناً أعدّلها لتتناسب معى، أو أرفضها وأعتمد على ما توصلت إليه بنفسى»، بهذه الكلمات حاول الصحفى ومُدقّق المعلومات، أحمد جمال، تلخيص طبيعة علاقته بالذكاء الاصطناعى وتأثيره على الصحافة، فى ظل التطورات المتلاحقة التى طرأت على تطبيقات الذكاء الاصطناعى وتداخلها مع كل المجالات، ومن بينها الصحافة.

قصة بدأت 1950

لم يكن «الذكاء الاصطناعى» وليد السنوات الأخيرة، ولكنه، كما يقول الباحث بكلية لندن الملكية، ستيفن موجلتون، فى دراسة له، كان نتاج أبحاث وتجارب مُضنية تعود إلى عشرات السنوات، وبشكل خاص إلى عام 1950، حيث تقدّم عالم الرياضيات والحواسيب البريطانى، آلان تورنج، بأول ورقة بحثية تختص بدراسة قدرة الآلات على التفكير، وكانت تلك الخطوة هى اللبنة الأولى فى بناء ما يُستخدم اليوم من برامج وأدوات متنوعة فى شتى المجالات.

المجال الصحفى ليس بعيداً عن هذا الأمر، فبمجرد ظهور الطفرة الكبرى فى برامج «الذكاء الاصطناعى»، انتشر الكثير من التطبيقات له داخل الصحافة، بداية من التعرّف على الصور ومطابقتها، مروراً بتحليل البيانات، وصولاً حتى إلى كتابة نص صحفى متكامل بكل عناصره، استناداً إلى مجموعة من المدخلات، فضلاً عن الترجمة الفورية وتشكيل النصوص وتدقيقها إملائياً وحتى معلوماتياً.

ويُنظر إلى الذكاء الاصطناعى الآن على أنه «الموجة التكنولوجية الثالثة» التى ستُغير وجه الصحافة بعد الإنترنت وأدواته الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى التى لعبت دوراً جوهرياً فى تغيير شكل المهنة والترويج للمحتوى، بل وإنتاجه أيضاً، حسب دراسة لمدير مركز البحوث الصحفية فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، البروفيسور شارلى بيكيت.

ثورة الذكاء الاصطناعي

ثورة حقيقية شهدها الكثير من المؤسسات الصحفية على مستوى العالم منذ ظهور «الذكاء الاصطناعى» بمفهومه الحالى وإمكانياته اللامحدودة، حيث أحدثت تطبيقاته تغييرات ملحوظة فى مراحل إنتاج العمل الصحفى، من جمع الأخبار إلى تحريرها والتعديل عليها، وهو ما جعل كُبرى الصحف والمواقع الإخبارية تستعين بتلك التطبيقات لتسهيل دورة العمل، والاستفادة من السرعة الهائلة فى الإنجاز، التى أصبحت تُوفرها.

وعلى سبيل المثال، فقد استعانت وكالة أنباء «أسوشيتد برس» بتقنيات «الذكاء الاصطناعى» فى كتابة التقارير الإخبارية القصيرة فى عدة مجالات، حيث تُنتج مواد عن نتائج المباريات الرياضية، والبيانات المالية، وبعض الأحداث الأخرى التى تحتاج إلى بيانات كثيرة، بينما لجأت صحيفة «واشنطن بوست» إلى تحليل الكميات الهائلة من البيانات المتاحة عن اهتمامات القراء بهدف إنتاج موضوعات جديدة تتلاءم مع اهتماماتهم.7281008531732039436.jpg

تحسين الصياغة والمراجعة

فى العالم العربى، ثمة نماذج وتجارب كثيرة أخرى أيضاً لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى فى العمل الصحفى. فحسبما يقول الصحفى ومُدقق المعلومات، أحمد جمال: «فى مجال عملى كمُدقّق معلومات، أعتمد على الذكاء الاصطناعى بطرق متنوعة، بداية من استخدام مواقع للتحقّق من صحة الصور المولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعى، أو التى تم التلاعب بتفاصيلها، وحتى مراجعة المادة لغوياً ونحوياً».

ويضيف: «الأدوات التى أستخدمها تتنوع حسب الحاجة، فعندما أحتاج إلى التحقّق من صحة صورة تم التلاعب بها، أستخدم أدوات مثل (Is It AI) و(AI or Not) و(Content at Scale) و(Illuminarty). كما أستخدم أيضاً (PimEyes) و(Hugging Face) و(FotoForensics)».

أما فى ما يتعلق بـ«مراجعة المادة لغوياً ونحوياً، وتحسين الصياغة»، فيستعين «جمال» بأدوات معالجة النصوص مثل «شات جى بى تى» ChatGPT، و«جيميناى» Gemini، وغيرهما، لكنه لا يعتمد عليهما بشكل كامل، وإنما يعتبرهما بمثابة مُرشد يساعده، حسب قوله.

وأمام هذه الأدوات المتنوعة، وغيرها، التى أصبح «جمال» يعتمد عليها بشكل كبير فى عمله كمدقق معلومات، يقول: «يمكننى القول إن مُدقّق المعلومات الآن بدون أدوات ذكاء اصطناعى، هو كالجندى بدون سلاح فى المعركة».

أكثر سرعة ودقة

يُعرّف «الذكاء الاصطناعى»، بحسب معظم المراجع، على أنه «أحد مجالات علوم الكمبيوتر، والمختص بحل المشكلات المعرفية المتعلقة بالتعلم والإبداع والتعرف على الصور، عن طريق تغذية تطبيق مُحدد بكم هائل من البيانات والاحتمالات، وذلك بهدف الوصول لإجابات وحلول لبعض المشكلات بشكل سريع ولحظى، واتخاذ قرارات بناء على ما يمتلكه من معلومات ومعادلات تستجيب للمدخلات». ولذلك يتوقع «جمال» أيضاً أن «تُصبح الصحافة فى المستقبل، فى ظل وجود الذكاء الاصطناعى، أسرع وأكثر دقة»، مؤكداً أن «الصحفى الذى لن يواكب هذا التطور سيتخلف عن الركب فى هذه المهنة المتسارعة». هذا ما يؤكده أيضاً المهندس محمد مغربى، استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين، الذى يشير إلى أن «الصحفيين فى جميع أنحاء العالم باتوا يعتمدون بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعى لتحسين أدائهم وتقديم محتوى عالى الجودة بشكل أسرع».

5813985941732039429.jpg

يعتقد «مغربى» أن «من أبرز إيجابيات الذكاء الاصطناعى قدرته على تسريع عملية الإنتاج الصحفى، حيث إن تطبيقات مثل Wordsmith وQuill تُتيح إنتاج تقارير صحفية فى ثوانٍ معدودة بناءً على البيانات المتاحة، ويمكن لهذه الأدوات تحويل المعلومات المجمعة من مصادر مُتعددة إلى نصوص جاهزة للنشر، مما يوفر للصحفيين وقتاً كبيراً ويساعدهم فى التركيز على القضايا الأكثر تعقيداً».

«فى الوقت الذى يعتمد فيه الصحفيون بشكل متزايد على البيانات فى إعداد تقاريرهم، ومع توفر كميات ضخمة من البيانات المفتوحة، يُصبح من الصعب تحليلها يدوياً. وهنا يأتى دور الذكاء الاصطناعى الذى يستطيع معالجة وتحليل البيانات بسرعة وبدقة، حيث تساعد تطبيقات مثل Data Miner الصحفيين فى تحليل كميات البيانات الكبيرة لاستخلاص الاتجاهات والمعلومات المفيدة»، هكذا أضاف «مغربى».

الاستقصاء وتحديد الاتجاهات

ميزة أخرى يُشير إليها أيضاً استشارى الذكاء الاصطناعى «محمد مغربى»، وهى أن «تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى يمكنها أن تكون أداة قوية فى التحقيقات الصحفية، حيث يُمكنها تحليل ملفات ضخمة من الوثائق أو المقالات للبحث عن تفاصيل دقيقة قد تكون فاتت المحققين التقليديين. وعلى سبيل المثال، فقد ساهم استخدام التعلم الآلى لتحليل تسريبات «وثائق بنما» Panama Papers فى تسريع التحقيق وكشف الحقائق المهمة». وحسبما يضيف «مغربى»، فقد ساهم الذكاء الاصطناعى أيضاً فى تحسين جودة الترجمة وتحرير المحتوى. وأصبحت أدوات ترجمة مثل Google Translate أكثر دقة بفضل استخدام خوارزميات تعلم الآلة. وهذا يعنى أن الصحفيين يُمكنهم نشر مقالات بلغات مُتعددة بسرعة، مما يزيد من انتشار الأخبار على مستوى عالمى».

وتابع: «التنبؤ بما سيهتم به الجمهور فى المستقبل أصبح ممكناً بفضل الذكاء الاصطناعى. فتطبيقات مثل NewsWhip تقوم بتحليل بيانات السوشيال ميديا والتفاعلات عبر الإنترنت لتحديد القصص التى من المرجح أن تنتشر وتلقى اهتمام الجمهور. وهذا يساعد المؤسسات الصحفية والصحفيين على التخطيط لمحتواهم بشكل أفضل واستهداف الموضوعات التى تُهم القراء».

تفريغ التسجيلات وتوليد التقارير

وسلَّط «مغربى» الضوء كذلك على عدد آخر من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى تساعد الصحفيين على إنجاز مهامهم اليومية، ومن أبرزها: «تطبيق Wordsmith من شركة أوبن إيه آى OpenAI، والذى يُستخدم لتوليد تقارير إخبارية معتمدة على البيانات، وتطبيق «Heliograf» الذى تستخدمه صحيفة «واشنطن بوست» لتوليد تقارير تلقائية للأخبار العاجلة، أو القصص ذات الطابع الروتينى، بما يتيح للصحفيين التركيز على الموضوعات الأكثر تعقيداً والتحقيقات الطويلة».

وأشار كذلك إلى تطبيق «Trint» الذى يستخدم الذكاء الاصطناعى لتحويل الصوت إلى نص مكتوب بشكل سريع ودقيق، مما يسهل على الصحفيين تحويل مقابلاتهم إلى نصوص مكتوبة بسهولة.

التفرغ للتقارير المعمقة

ومن واقع خبرته العملية، يؤكد الصحفى إيهاب صابر مميزات الذكاء الاصطناعى فى تسهيل عمل الصحفى ومساعدته، مشيراً إلى أنه «يمكن استخدامه فى العديد من النواحى، ومن بينها إنتاج التقارير الصحفية اليومية الروتينية التى تستهلك وقت الصحفى وجهده، ليتفرغ بذلك الصحفى لكتابة التقارير المعمقة والاستقصائية التى تحتاج إلى جهد ووقت، وكاتب من ذوى الخبرة لإتمامها»، حسب قوله.

وأضاف: «يُمكن أن يُستخدم الذكاء الاصطناعى أيضاً فى توليد الصور التوضيحية والبيانية فى الموضوعات الصحفية، والتى يحتاج إليها الصحفى لتوصيل مضمون التقرير المكتوب فى شكل مرئى، مع ضرورة توضيح أن تلك الصور مولدة من خلال أدوات الذكاء الاصطناعى، حتى لا ينخدع فيها القارئ ويتم استخدامها فى غير نطاقها».

وتابع: «أقوم باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعى فى البحث والتدقيق، وهذا بعد مراجعة طبعاً من جانبى؛ لأنه لا يمكن الاعتماد على دقته بنسبة 100%»، مؤكداً أن «الذكاء الاصطناعى لا يُستخدم لإنتاج صحافة مستقلة بذاتها دون تنقيح، وفى كل الأحوال لا بد من مراجعة ما ينتج عنه وعدم تقديمه للجمهور فى صورته الخام».

حماية الصحفيين في الحروب

وبناء على بحث لها عن «استخدامات الصحفيين لتطبيقات الذكاء الاصطناعى»، اعتبرت الدكتورة حنان الجندى، أستاذ الإعلام بجامعة «الأهرام الكندية»، أن «العاملين فى مجال الإعلانات يُعتبرون الأكثر استخداماً لـ«شات جى بى تى»، لأن لديه كماً كبيراً من الأفكار والمقترحات التى تساعد العاملين فى هذا المجال على فهم الجمهور المتلقى، كما أنه يقترح عليهم صياغات وجوانب مُحددة لتوصيل الرسالة الإعلانية بشكل أكبر وأكثر دقة، فضلاً عن اقتراح الفيديوهات والصور التى يُمكن أن تستخدم فى الحملة الإعلانية».

18570621291732039433.jpg

وتطرقت أستاذ الإعلام إلى استخدام آخر للذكاء الاصطناعى فى مناطق النزاعات والحروب، قائلة: «فى بعض الأماكن لا يستطيع الصحفى الوجود فى منطقة بها قتال، فيطلب من المراسل الميدانى أو «المواطن الصحفى» داخل المكان أن يزرع كاميرا داخل الحدث وتكون فى الغالب بتقنية تصوير 360 درجة وتنقل الحدث عن بُعد وتوجه هذه الكاميرا من خلال ريموت كنترول من غرفة التحكم وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى بهدف حماية العنصر البشرى من الدخول فى دائرة الخطر».

«سلاح ذو حدين»

إلا أن الصحفى ومُدقق المعلومات، أحمد جمال، يعود ويشير إلى أنه بالرغم من إيجابيات «الذكاء الاصطناعى»، وأنه أصبح عنصراً مهماً فى المجال الصحفى الآن، كونه «يحتوى على أدوات قوية يمكن أن تُساعد المؤسسات الصحفية على تقديم مُنتج أكثر جودة وذى فائدة أكبر للجمهور المتلقى»، إلا أنه ظهرت إشكالية أخرى أثارت قلق الصحفيين، كما يستطرد، وهى أن «كل وسيلة تطور هى سلاح ذو حدين».

فالذكاء الاصطناعى، حسبما يوضح «جمال»: «يمكن أن يكون مفيداً فى يد من يستخدمه بشكل صحيح، ويمكن أن يكون ضاراً إذا استخدم فى التدمير أو الإيذاء، أو فى حالة عدم مراجعة النتائج التى توصل إليها».

وهو ما يؤكده أيضاً المهندس محمد مغربى، استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين، مشيراً إلى أن أى تكنولوجيا لا تخلو من سلبيات بالطبع: «فالذكاء الاصطناعى يعتمد على البيانات لتوليد المحتوى أو اتخاذ قرارات. ولكن إذا كانت البيانات المستخدمة مشوهة أو تحمل تحيزات، فإن النتائج ستكون مماثلة. وهذا قد يؤدى إلى نشر معلومات غير دقيقة أو منحازة، فى مجال الصحافة، حيث الدقة والحيادية مهمتان للغاية.. وهذا التحدى يشكل خطراً على مصداقية المؤسسات الصحفية»، بحسب «مغربى».

غير أن «مُدقق المعلومات» محمد جمال يقلل من شأن القلق الناجم عن هذه الإشكالية، قائلاً: «لا أعتقد أن الخوف من الذكاء الاصطناعى يجب أن يشغل حيزاً كبيراً من تفكيرنا، لأن هناك دائماً حاجة لعقل بشرى يدير ويوجه هذه الأدوات ويُحلل النتائج التى تخرج عنها».

تقليص فريق العمل البشري

يعود «جمال» ويشير لتأثيرات متوقعة للذكاء الاصطناعى على حجم القوى البشرية العاملة فى الصحافة، قائلاً: «الذكاء الاصطناعى قد يؤدى إلى الاستغناء عن بعض المهن الفرعية داخل دائرة العمل الصحفى، فالذكاء الاصطناعى يمكنه الآن التصحيح وإعادة الصياغة والترجمة وفهم سياسات المؤسسة. وما كان يتطلب فريقاً من 4 أو 5 أشخاص يمكن لشخص واحد أن يديره بمساعدة الذكاء الاصطناعى. وعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو غير منطقى الآن، لكنه قد يصبح واقعاً فى المستقبل القريب».

وفى هذا السياق يشير المهندس محمد مغربى، استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين، كذلك إلى أنه «مع تقدم الذكاء الاصطناعى فى توليد المحتوى وتحليل البيانات، فإن هناك مخاوف من أن يتم استبدال الصحفيين بتطبيقات أو روبوتات تكنولوجية، حيث إنه فى بعض الحالات بدأت شركات إعلامية بالفعل فى استخدام الذكاء الاصطناعى لكتابة الأخبار الروتينية مثل التقارير المالية أو النتائج الرياضية، مما يقلل من حاجة المؤسسات إلى الصحفيين البشريين فى هذه المجالات».

غير أن الدكتورة حنان الجندى تستبعد أن يقلص الذكاء الاصطناعى فريق العمل البشرى فى المؤسسات الصحفية فى المدى القريب، قائلة: «لم نسمع حتى الآن أن هناك مؤسسة صحفية دولية بأكملها تقوم على الذكاء الاصطناعى أو قامت أى جهة بالاستغناء عن الصحفيين فى مقابل الذكاء الاصطناعى أو الـAI، ولكن هناك الآن مذيعة بالذكاء الاصطناعى تقرأ النشرات فقط، وذلك فى نطاق محدود».

وفيما يتعلق بمصر بشكل خاص، كما تضيف «الجندى»: فإن «الوضع سيكون أقل تأثيراً، لأننا تحولنا للكتابة للإنترنت بشكل أبطأ بكثير مما حدث فى الغرب، ولا توجد مؤسسة تفرض على صحفييها استخدام تلك الأدوات، فما بالك أصلاً بالاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعى، وفى رأيى لن يتأثر الصحفيون فى الخارج أو فى مصر بوجود تلك التقنيات على المستوى القريب على الإطلاق».

البصمة الإنسانية

«الإعلام بمثابة الونس فى الوحدة، فى أوقات الفرح أو الحزن، فالونس له وظيفة وله مهام تحتاج إلى روح، وهذا ما يفسر لماذا ينتظر المتلقى برنامجاً أو مقالاً لكاتب معين، وآخر يختلف حول هذا الكاتب، لأن لكل منا ما يجذبه لأسلوب وطريقة القائم بالاتصال، وهذا الأمر يؤكد أن البصمة البشرية لها عامل كبير فى الجذب، بينما الذكاء الاصطناعى لا يستطيع أن يُقلد الروح البشرية و«الونس» والبصمة الإنسانية».

بهذه الكلمات واصلت الدكتورة حنان الجندى حديثها حول مستقبل الصحافة فى ظل التطورات المتلاحقة للذكاء الاصطناعى داخلها، حيث تقول: «دائماً أؤكد على طلابى أن إحنا الونس»، مشيرة إلى أن عدد الصحفيين ممن يستخدمون الذكاء الاصطناعى فى مصر ما زال قليلاً، لأن الدورات التدريبية ما زالت قليلة وليست متاحة بشكل كبير، ويلجأ الصحفيون للحصول على دورات بشكل فردى، فاستخدام الذكاء الاصطناعى ما زال فى بدايته بمصر.

وتابعت: «فى بحثى عن استخدامات الصحفيين لتطبيقات الذكاء الاصطناعى، ووجدت أن معظمهم يستخدم هذه التطبيقات كأداة لسرعة إنجاز المهام المُكلفين بها؛ فمثلاً يساعد فى اقتراح أسئلة ومحاور للمقابلات الصحفية، إضافة إلى إعادة صياغة الموضوع، فضلاً عن التدقيق اللغوى، وقد وجدت أن عدد مستخدمى تلك التطبيقات من الصحفيين ليس كبيراً فى المؤسسات الصحفية داخل مصر ومن يستخدمها يعتمد عليها كأداة».

واتفق استشارى الذكاء الاصطناعى «محمد مغربى» مع الدكتورة حنان الجندى، فيما يتعلق بافتقار الذكاء الاصطناعى للمسة الإنسانية، قائلاً: «قد يكون قوياً فى تحليل البيانات وإنتاج تقارير، لكنه يفتقر إلى الفهم العميق للعواطف والموضوعات المعقدة التى تتطلب تفكيراً نقدياً. والمقالات التى تكتبها الخوارزميات قد تفتقر إلى اللمسة الإنسانية التى يتميز بها الصحفيون. على سبيل المثال، تحليل قضية اجتماعية حساسة أو كتابة مقالات ذات طابع أدبى يتطلب فهماً إنسانياً يتجاوز ما يمكن للذكاء الاصطناعى تقديمه». ويستطرد «المغربى»: لا شك أن الصحافة تعتمد فى المقام الأول على امتلاك الصحفيين لمهارات إبداعية وتحليلية لفهم سياق الأحداث وما يكمن بين السطور، ما يجعلهم قادرين على إنتاج تقارير معمقة ذات طبيعة إنسانية لا يمتلكها بأى حال من الأحوال «الذكاء الاصطناعى»، فضلاً عن امتلاكهم النمط الأخلاقى والسلوكى الذى يتفاعل مع الأحداث وتطوراتها، ما يجعل المستقبل هنا يرتكز على التكامل بين العنصر البشرى وتطبيقات «الذكاء الاصطناعى».

أدوات مُنحازة ومُسيَّسة

وفى تأكيد على فكرة التكامل بين العنصر البشرى وتطبيقات الذكاء الاصطناعى، تواصل الدكتورة حنان الجندى، أستاذ الإعلام بجامعة «الأهرام الكندية» حديثها قائلة: «النتيجة التى توصلت إليها فى البحث الذى أجريته حول استخدام الصحفيين لوسائل الذكاء الاصطناعى أن الصحفيين لا يعتمدون على هذه الوسائل بشكل كبير، وينظرون إليها على أنها تمثل وسائل مساعدة ولا يمكن الاعتماد الكامل عليها، لأنها تتطلب تدخل العنصر البشرى، لأنها أداة تُدخل إليها البيانات وتمنحك معلومة، ولا يجب على الإطلاق أن تأخذ هذه المعلومة وتنشرها بدون تدقيق وبدون فهم لما هو مكتوب».

ولعل ما يُعزز ذلك، حسبما تضيف «الجندى»، هو أنه: فى بعض التطبيقات مثل «شات جى بى تى» لمست أن بها جزءاً عنصرياً، فحين سألته عن عدد الصحفيين الذين قُتلوا فى قطاع غزة يقول: «لا أعرف. اذهب للمصادر الأخرى»، رغم أنه قادر على الذهاب لتلك المصادر وتقديم المعلومة كاملة، ولكنه مُسيَّس بشكل أو بآخر»، هكذا أضافت أستاذة الإعلام.

2269503681732039431.jpg

تجربة حية

وفى السياق نفسه، يحكى الخبير الإعلامى الدكتور ياسر عبدالعزيز، عن تجربة خاضها توثق ما طرأ على الصحافة من تغيير نتيجة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعى، حيث يقول: «قررت اختبار قدرة برنامج «شات جى بى تى» على إنتاج نصوص صحفية قابلة للنشر وفق المعايير التى أعلمها عن قواعد العمل الصحفى ومبادئه التحريرية، وتوصلت لنتيجة محددة هى أنه بوسع تلك التقنيات مساعدة الصحفيين ومؤسسات صناعة المحتوى فى عملها بشكل يمكن أن يغير أساليب عمل الصناعة، لكن تلك المساعدة ستظل محفوفة بمخاطر عديدة، ولن ترسل الصحفيين كلهم إلى مهن أخرى أو تطردهم تماماً من سوق العمل».

اختلاق الأحداث في لحظات

وحول المخاطر المحتملة الناتجة عن استخدام الذكاء الاصطناعى، يستشهد الخبير الإعلامى د. ياسر عبدالعزيز بواقعة تداول صورة تكاد تكون حقيقية، وتم توليدها بواسطة الذكاء الاصطناعى، لانفجار وقع فى مقر وزارة الدفاع الأمريكية وهى الصورة التى صدقها كثيرون وقتها، الأمر الذى تسبب فى تهاوى الأسهم ببورصة نيويورك وخسارة ملايين الدولارات، وهو ما أجبر «البنتاجون» على نفى الواقعة سريعاً.

وبالإضافة لهذه الصورة، كما يضيف «عبدالعزيز»، فقد انتشرت صورتان مزيّفتان أيضاً ومولدتان بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعى، تُظهران الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب وهو رهن الاعتقال، وبابا الفاتيكان فرنسيس فى زى غير معتاد، وقد حظيتا بتصديق البعض، وفتحتا الباب أمامنا لنُفكر بشكل جدى فى التأثيرات المتوقعة على مهنة الصحافة نتيجة تطورات هذه التطبيقات.

واتفق معه استشارى الذكاء الاصطناعى محمد مغربى، موضحاً أنه «مع التقدم فى تقنيات الذكاء الاصطناعى، يُمكن استخدام نفس التكنولوجيا لنشر الأخبار الكاذبة أو المضللة. لا سيما أن الذكاء الاصطناعى قادر على توليد محتوى مُقنع جداً، مما يُسهل على الجهات التى تسعى إلى تضليل الجمهور استخدام هذه الأدوات لنشر معلومات مُضللة بكفاءة. وهذا يشكل تهديداً كبيراً للثقة فى وسائل الإعلام»، حسب قوله.

وضع ضوابط لاستخدامه

هنا يعود الخبير الإعلامى ياسر عبدالعزيز للحديث عن ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعى، قائلاً: «مخاطر تنامى تداخلات الذكاء الاصطناعى مع كل المجالات دفع جيفرى هنتون -عرّاب الذكاء الاصطناعى- وسام ألتمان، مدير شركة «أوبن إيه آى»، التى أطلقت «شات جى بى تى»، وإيلون ماسك، وستيفن هوكينج، وبيل جيتس، ومئات الخبراء حول العالم، إلى الإجماع على تحذيرنا من مخاطر هذا الذكاء، واحتمالات تهديده للوجود البشرى، والمطالبة بضرورة وضع ضوابط»، متابعاً: «قد نحتاج مستقبلاً لإيجاد ضوابط واتخاذ إجراءات سريعة قبل أن يتمكن الذكاء الاصطناعى من إرسال كثير من الصحفيين إلى منازلهم، وغزو المجال الإعلامى بالأخبار المضللة والصور المزيفة والفيديوهات المختلقة».

وحول هذه الإجراءات التى يجب وضعها، يُشدد الخبير الإعلامى على ضرورة تحرك المؤسسات الإعلامية لوضع قواعد تنظيمية خاصة باستخدام منتجات الذكاء الاصطناعى فى العمل الصحفى، وأن تضيف إلى ضوابط العمل الإعلامى ومواثيق الشرف و«أكواد» الممارسة أجزاء جديدة مهمتها السيطرة على تداخل هذه التطبيقات مع المهنة، وإقرار قواعد محددة لحماية حقوق الملكية الفكرية فى مواجهة التطبيقات والقائمين عليها.

إجابات من «شات جي بي تي»

لم يتبق سوى أن نسأل أدوات الذكاء الاصطناعى ذاتها حول مدى تأثيرها على مستقبل الصحافة والصحفيين، وكانت الردود لافتة، وربما أحياناً صادمة بعض الشىء، حيث أجاب «جيمناى»، مساعد الذكاء الاصطناعى الذى أطلقته «جوجل»: (بالتأكيد، يطرح الذكاء الاصطناعى تساؤلات جدية حول مستقبل مهنة الصحافة. فلقد أصبح قادراً على تولى العديد من المهام التى كانت حكراً على الصحفيين، مثل: «جمع البيانات وتحليلها، وكتابة الأخبار، والتحرير، والترجمة»، ولكن، هل يعنى هذا أن الذكاء الاصطناعى سيحل محل الصحفيين تماماً؟، الإجابة ليست بهذه البساطة. فبالرغم من القدرات المتزايدة للذكاء الاصطناعى، فإنه لا يزال يفتقر إلى بعض المهارات الأساسية التى يتميز بها الصحفيون، مثل: «التفكير النقدى، الإبداع، التواصل البشرى وبناء العلاقات مع المصادر»، وبدلاً من التنافس، يجب على الصحفيين الاستفادة من قدراتنا لتعزيز عملهم، عن طريق «توفير الوقت والجهد، تحسين جودة المحتوى، توسيع نطاق التغطية»، وباختصار، الذكاء الاصطناعى يمثل تحدياً كبيراً لمهنة الصحافة، ولكنه يمثل أيضاً فرصة لتطويرها. الصحفيون الذين يتمكنون من التكيف مع التغيرات التكنولوجية والجمع بين مهاراتهم البشرية وقدرات الذكاء الاصطناعى سيكونون هم الفائزين فى المستقبل).

أما «شات جى بى تى»، التابع لشركة «أوبن إيه آى»، فأجاب: (نعم، الذكاء الاصطناعى يمكن أن يشكل تهديداً لمستقبل بعض الصحفيين، لكن التأثير ليس شاملاً أو أحادى الجانب. فهو قادر على توليد المحتوى الإخبارى، تحليل البيانات بسرعة، وإنجاز مهام روتينية مثل تحرير النصوص أو كتابة تقارير تعتمد على البيانات، مما قد يقلل من الحاجة لبعض الصحفيين فى المجالات التى تعتمد على التغطية الآلية للأخبار. ومع ذلك، هناك جوانب من الصحافة مثل «التحقيقات المعمقة، والتحليل العميق، والقصص الإنسانية» التى تعتمد على الإبداع والتفكير النقدى والتفاعل البشرى، وهذه الجوانب يصعب على الذكاء الاصطناعى تقليدها. لذا بينما قد يتأثر بعض الصحفيين، من المتوقع أن يظل هناك دور أساسى للصحافة البشرية فى تقديم التحليل المعمق والتواصل الشخصى).

تجارب لاستخدام الذكاء الاصطناعي

وفى إطار العمل على هذا التحقيق، استعان مُعد التحقيق ببعض أدوات الذكاء الاصطناعى من أجل تسريع وتيرة العمل وسرعة الإنجاز، حيث تم استخدام تطبيقى «شات جى بى تى»، و«جيمناى» للبحث عن المصادر المعمقة المرتبطة بالموضوع، وكان الأمر مفيداً بدرجة كبيرة جداً عكس البحث عنها بالطرق التقليدية.

وقد تم تفريغ نص حديث لبعض المصادر التى تحدثت لـ«الوطن» باستخدام برامج الذكاء الاصطناعى التى تحول الصوت إلى نص مكتوب، ما وفر وقتاً وجهداً كبيرين، إلا أن الأمر لم يكن يسيراً لهذه الدرجة، فكان لا بد من تدخل «البصمة البشرية» حيث تمت إعادة صياغة ما أنتجته الأداة التى فرّغت بشكل غير دقيق، ليتم تحويل ما تم إنتاجه إلى نص صحفى، لم يتمكن «الذكاء الاصطناعى» من محاكاته حتى الآن، وهو ما يتماشى مع ما ذكره خبراء عن أن المستقبل سيكون للتكامل بين الصحفى وأدوات الذكاء الاصطناعى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق