الشعبوية ظاهرة سياسية بارزة تعبر عن تطلعات الجماهير وتحديها للنظم التقليدية؛ وتحمل طابعاً مزدوجاً؛ فهي أداة للتعبير عن صوت الشعب والمطالبة بالإصلاح، وأحياناً وسيلة للتلاعب بالعواطف. ورغم جذورها التاريخية، إلا أنها تبقى مؤثرة بقوة في السياسة الحديثة، ما يستدعي فهم أبعادها وتأثيراتها.
يسعى كتاب «الشعبوية، الديماغوجية، والخطاب في منظور تاريخي»، الذي قام بتحريره جوزيبي بلاشي وروب غودمان، إلى سد هذه الفجوة، من خلال تقديم مقاربة شاملة تستعرض الشعبوية في إطار تاريخي وفكري أوسع. يقدم الكتاب قراءة متعددة الأبعاد تربط بين شعبوية اليوم والجذور الفكرية التي نشأت منها عبر العصور، ساعياً إلى فهم أعمق للخطاب الشعبوي من خلال مساراته التاريخية والفكرية.
يجمع الكتاب أعمال عدد من كبار المفكرين السياسيين من مختلف أنحاء العالم، ليطرح أسئلة حول مدى ارتباط الشعبوية المعاصرة بجذور تاريخية تعود إلى الفكر السياسي القديم. يستعرض الكتاب، على سبيل المثال، كيف كان الجدل قديماً بين النخب السياسية التي تمتلك «الخبرة» والجماهير التي تمثل «الرأي العام»، وكيف أثرت هذه الصراعات في تشكيل الخطاب الشعبوي وتطوره. ويعود إلى تحليل الخطاب البلاغي الذي استخدمه القادة السياسيون، والذي تراوح بين جذب الجماهير وتجييشها، وبين محاولة توجيهها وفق أهداف محددة.
العلاقة بين الشعبوية والديماغوجية
من المواضيع المهمة التي يتناولها الكتاب، العلاقة بين الشعبوية والديماغوجية؛ حيث يستعرض التشابهات الفكرية بينهما وكذلك الفروق الأساسية. ويشير المحرران إلى أن الديماغوجية والشعبوية تشتركان في استخدام خطاب التلاعب والتجييش العاطفي لتحفيز الجماهير، إلا أن الشعبوية تملك بُعداً أيديولوجياً أعمق وتستند إلى روايات تتعلق بالهوية الشعبية والعدالة الاجتماعية التي تفتقر إليها الديماغوجية. كما أن مفهوم الشعبوية يتضمن أحياناً نقداً للمؤسسات والأطر النظامية، بينما يظل التركيز في الديماغوجية على إرضاء الجماهير فقط دون تحدي هياكل السلطة القائمة.
لا يكتفي الكتاب بتقديم نظريات حول الشعبوية، بل يعتمد على مجموعة من المناهج التحليلية المتنوعة التي توظف التاريخ والفلسفة السياسية لإثراء النقاشات المحيطة بالموضوع. يسعى المحرران إلى تقديم رؤى جديدة تعمق فهم القارئ لعوامل تشكيل الشعبوية وتطورها في العصور القديمة والحديثة، وتبرز الخطاب الشعبوي كعامل ديناميكي يتفاعل باستمرار مع القوى السياسية والاجتماعية المحيطة به.
من خلال الأقسام المتنوعة في الكتاب، يتتبع المؤلفان مظاهر الشعبوية والديماغوجية، انطلاقاً من اليونان وروما القديمة، مروراً بالفكر السياسي في إيطاليا الحديثة المبكرة، وصولاً إلى العصر الحديث، حيث تتناول الفصول التحولات في مفهوم الشعبوية عبر التاريخ.
الشعبوية في العصور القديمة والحديثة المبكرة
يتناول الكتاب في القسم الأول من الكتاب الأصول الفكرية للشعبوية والديماغوجية في العالم القديم؛ حيث تقدم أرلين ساكسونهاوس في الفصل الأول منه دراسة عن مفهوم «Parrhêsia»، وهي كلمة يونانية قديمة تعني حرية التعبير الجريئة في أثينا الديمقراطية، وكيف كانت تُستخدم للتأثير في القرارات الديمقراطية. وفي الفصل الثاني، يستعرض تاي-يون كيم إشكالية الشعبوية في فكر أفلاطون، مشيراً إلى رؤيته النقدية لدور الشعبويين وتأثيرهم في المجتمع.
ويتناول روب غودمان في الفصل الثالث تطور خطاب الشعبوية في روما الجمهورية المتأخرة، مركزاً على ما يُعرف بـ«الخطاب العاري» أو المباشر، وكيف أسهم في تحدي سلطة النخب؛ ثم ينتقل كاري نيدرمان في الفصل الرابع إلى تناول الفكر الجمهوري وخطابه الشعبي في كتابات برونيتو لاتيني، مسلطاً الضوء على التفاعل بين الشعبوية والجمهورية في فكر هذا المفكر الإيطالي؛ في حين يستعرض أليساندرو موليري في الفصل الخامس، العلاقة بين الشعبوية والفكر الجمهوري في إيطاليا الحديثة المبكرة، مركزاً على فكرة «حكم الفقراء».
ويتناول ديفـــيد راغـــازوني فـي الفصل السادس ساحة الخطــابة كمعـــركـــة للفضيلة والشرعية السياسية، حيث يقــــدم رؤيــة عن كيفية استخدام البلاغة لتأسيس الشرعية وتوجيه الجماهير، خصــوصاً في سياق الإنسانية الإيطالية.
الشعبوية بين الحداثة والمعاصرة
يمثل القسم الثاني توسيعاً للفهم التاريخي للشعبوية في السياقات الحديثة والمعاصرة. يستعرض دانيال كابست في الفصل السابع العلاقة بين الديماغوجية والثقافة السياسية، من خلال أعمال الكاتب الأمريكي جيمس كوبر، التي عكســـت التوترات بين الشعبوية والجمهورية. ويستعرض كـــاري بالونين في الفصل الثامن صعود الشعبوية في إطار السياسة المناهضة للبرلمان، موضحاً كيف لعبت الشعبوية دوراً محورياً في تعزيز الحركات المعارضة للمؤسسات البرلمانية التقليدية في أوروبا الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويشير إلى أن الشعبوية الحديثة تختلف عن المناهضة الكلاسيكية للبرلمان؛ إذ تتبنى خطاباً يدعي الديمقراطية من خلال مناشدة «الشعب» بشكل مباشر، مع رفضها التمثيل السياسي التقليدي، والتقليل من قيمة «حديث البرلمان الفارغ» وأسلوب السياسة الإجرائي.
يتناول جيوفاني داميل في الفصل التاسع أفكار الاقتصادي الإيطالي فيلفريدو باريتو حول الشعبوية والبلاغة، ويستعرض أفكاره عن تأثير التفاوت الاقتصادي في الديمقراطية. يُعد باريتو أحد الآباء المؤسسين للنخبوية، وقد أسهمت أفكاره في نقد البرلمانية الليبرالية التي ترتكز على نظام تمثيلي أوليغارشي. يقترح داميل أن يُعاد تفسير باريتو كناقد للأوليغارشية، ويبرز أهمية نظرية تداول النخب في فكره، إلى جانب التركيز على «العواطف» و«المشاعر» كعناصر أساسية يمكن استغلالها في الخطاب السياسي تحت الأنظمة الأوليغارشية.
ويناقش جان-ورنر مولر في الفصل العاشر، كيفية تجسيد الديمقراطية في المباني العامة، متسائلاً عما إذا كانت المباني التشريعية الضخمة يمكن أن تعزز الشعور الديمقراطي لدى المواطنين. يؤكد مولر أن الديمقراطية تحتاج إلى فضاءات مرنة تعكس تنوع الممارسات الديمقراطية وتعددية المجتمع، مشيراً إلى أهمية تصميم المباني العامة لتعزيز المشاركة والشعور الديمقراطي.
أما الفصل الحادي عشر، فيتحدث مارك وينمان عن العلاقة المعقدة بين الشعبوية والتعددية، مؤكداً أن هذه العلاقة ليست بالضرورة متعارضة، بل تمثل تكويناً معقداً يمكن فهمه بطرق متعددة. يُبرز وينمان أن الشعبوية والتعددية ليستا متضادتين بالكامل، بل تتقاطعان في بعض النقاط، ما يخلق علاقات قد تؤدي إلى فهم أعمق للتفاعلات السياسية في المجتمع الديمقراطي.
في الفصل الثاني عشر، يقدم جون بي. ماكورميك تحليلاً لدور النخبوية والثروة السياسية في إثارة مشاعر الظلم والغضب الشعبي، موضحاً أن الشعبوية في هذا السياق تعبر عن الألم والمظلومية الناتجة عن التفاوتات الاقتصادية. يرى ماكورميك أن الشعبوية وسيلة ضرورية لتحقيق إصلاح فعال في الديمقراطية المعاصرة، مشيراً إلى أنها تتيح حشداً جماهيرياً قد يفرض تغييرات جوهرية على النخب الحاكمة. يعتمد ماكورميك في تفسيره على أفكار مكيافيلي؛ حيث يوضح كيف يمكن للحركات الشعبوية التقدمية أن تستخدم وسائل سياسية لمواجهة التفاوتات الاقتصادية المتزايدة.
فـي الفصل الثالــث عشـــر، تتناول باولا ديهــل ظاهــرة «السياسة الشهيرة» أو «السياسة الترفيهــية»، وتشـــرح كـــيف أدى قــــادة يمينيون، مثل ترامب وسالفيني وبولسونارو، إلى ظهور شكل جديد من الشعبوية يجمع بين الشهرة والترفيه السياسي. وتضيف أن هذا النوع الجديد من الشعبوية يطرح تساؤلات حول مفهــوم الحقيقة والواقع في السياسة، حيث يسهم في تحـــويل السياسيين إلى شخصيات مشهورة تؤثر في الجمــاهير من خلال وسائل الإعلام.
يختتم سيمون لامبيك الكتاب في الفصل الرابع عشر بتناول تأثير «الخطاب اليومي» في السياسة، مشيراً إلى أن علماء السياسة يركزون عادة على «الخطاب الاستثنائي»، ويهملون دراسة تأثير الخطاب اليومي. يقدم لامبيك مفهوم «الرنين الخطابي» ليوضح كيف يمكن للخطاب اليومي المتكرر أن يؤثر في الواقع السياسي، ويعرض مثالاً على ذلك من أحداث اقتحام الكابيتول في 2021، حيث أثرت الادعاءات المتكررة حول تزوير الانتخابات في الجماهير.
ويلخّص المحرران في الختام الأفكار الرئيسية المطروحة، مؤكدين أهمية فهم الشعبوية كـــظاهـــرة متجذرة تاريخياً ومتطورة عبر العصور.
0 تعليق