نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ناحوم أفندي.. ساعد «الصهيونية» على ابتلاع فلسطين وإعلان دولة الاحتلال, اليوم الأحد 1 سبتمبر 2024 09:55 مساءً
للوهلة الأولى يبدو كتاب «ناحوم أفندى - أسرار الحاخام الأخير ليهود مصر»، للكاتبة سهير عبدالحميد، مجرد سيرة رجل دين لطائفة يهود مصر، لكن عبر صفحات الكتاب سيجد القارئ مقاصده أبعد من كونه سيرة ذاتية، إذ يناقش عدة قضايا بالغة الأهمية؛ بشكل أساسى نشأة الحركة الصهيونية، التى كانت فكرة، تطورت إلى استراتيجية ممنهجة تبلورت بوضوح نهاية القرن التاسع عشر، كما يتعرض للوجود اليهودى فى الدولة العثمانية ومصر، وعلاقة هذه الحركة بالدولة العثمانية، وموقف الدولة منها، ثم يرصد أشكال تغول وتوغل الصهيونية فى جسد فلسطين، إلى إعلان دولة إسرائيل وتداعياتها التى نعايشها ويعايشها الأشقاء الفلسطينيون واقعاً مريراً منذ 76 عاماً.
عايش فترة حرجة تتزامن مع تأسيس الحركة الصهيونية بوجهها القبيح منذ مؤتمر بازل بسويسرا 1897
فى البداية تقدم المؤلفة بطاقة تعريف بشخصية الحاخام الأخير للطائفة اليهودية فى مصر (ناحوم أفندى 1873- 1960)، حيث عاش وعايش فترة حرجة تتزامن وتتماس مع الحركة الصهيونية، إذ بدأت هذه الحركة تكشف عن وجهها القبيح منذ مؤتمر بازل بسويسرا 1897، كما تتزامن حياة الرجل مع العديد من التحولات التى حدثت على خريطة العالم، من أبرزها سقوط الخلافة العثمانية وتقسيم تركتها بين قوى الاستعمار البريطانى والفرنسى، وقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وغيرها.
تقول المؤلفة عن الرجل: «عاش حايم ناحوم أفندى، الحاخام الأكبر ليهود مصر، حقبة من الدم والنار سادتها علامات الاستفهام واللغط الذى لم يرسُ جزء منه على مرفأ اليقين حتى يومنا هذا، ونال الرجل من هذا اللغط ما ناله..».
وتتتبع مسيرته وانتقاله من إسطنبول إلى مصر: «حايم ناحوم أفندى، (حاخام باشى) اليهود فى بلاط السلطان العثمانى، ثم الحاخام الأكبر فى بلاط الملك فؤاد منذ 1925، ومن بعده ابنه الملك فاروق، وأخيراً جمهورية الضباط الأحرار حتى توفى عام 1960، الحاخام رقم 49 أو قبل الأخير فى تاريخ حاخامات مصر، وإن كان هو فعلياً الحاخام الأخير، إذ لم يكن خليفته حايم دويك سوى رئيس للطائفة التى تقلص حجمها كثيراً، ولم يكن له النفوذ الذى تمتع به سلفه».
كما ترصد جوانب أخرى من حياته والأدوار والمهام التى تقلدها خلال رئاسته للطائفة اليهودية فى مصر، ومن بينها عضويته فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعمله مترجماً للملك فؤاد ورئاسته (شرفياً) لجمعية الأبحاث التاريخية الإسرائيلية التى تأسست عام 1925 لإحياء التاريخ اليهودى والوعى القومى، كما كتب عدة مؤلفات عن فلاسفة اليهود، خصوصاً موسى بن ميمون، كما اهتم بكل ما يخص اليهود وتاريخهم فى مصر.
من خلال الكتاب نفهم أن الرجل كان كاريزما، له وزنه وقدرته على التأثير فى طائفة اليهود أينما حلوا، فقد كان يجيد عدة لغات، منها العبرية والعربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والتركية، وغيرها: «لم يكن ناحوم رجل دين وحسب، بل كان دائم الحرص على الاطلاع، ومثلما كانت التوراة لا تفارقه كان القرآن بجواره دوماً يدرس ألفاظه ومعانيه، كان بشهادة كل من عاصره خطيباً مفوَّهاً، فكانت محاضراته المستمرة فى كنيس الإسماعيلية لا تنقطع حول الموضوعات الدينية».
أسهم فى تطور الأحداث بزيادة عدد المهاجرين إلى فلسطين
يتعرض الكتاب لعدد من الوقائع والأحداث التى تم توظيفها لخدمة الهدف الاستراتيجى، منها توظيف الأدب لخدمة الصهيونية، ومنها أيضاً واقعة ذات دلالة خاصة تكشف أبعاد تأسيس الحركة الصهيونية فى تركيا (قلب الخلافة العثمانية) ونشرها على يد أحد الشباب اليهود، للدعوة للهجرة إلى فلسطين بدعوى «استعادتها» من العرب، والذى ادَّعى دخوله الإسلام ونشر مذهبه الذى يعلن الإسلام ويُضمر مذهبه الصهيونى، وهو ما كان نواة لما عُرف فيما بعد بـ«يهود الدونمة»، وهى الحركة التى كانت تأسيساً وسبباً لسقوط الدولة العثمانية بشكل كامل فى 1923، تمهيداً لتحقيق المطامع اليهودية فى فلسطين، خاصة فى فترة السلطان عبدالحميد الثانى، الذى اتخذ عدة إجراءات ليحول دون توغل اليهود فى فلسطين، وأبرز هذه الإجراءات «الجواز الأحمر»، الذى يمنع إقامة اليهود فترة طويلة فى فلسطين آنذاك.
ألغى «الجواز الأحمر» الذى منع الهجرة اليهودية مؤقتاً
ويوضح الكتاب الدور الخطير الذى لعبه «ناحوم أفندى» فى تطور الأحداث، وكان له دور بارز فى زيادة عدد المهاجرين، فقد «كان له دور البطولة فى إلغاء الجواز الأحمر الذى كان بمثابة القيد الأخير الذى يغل الهجرة اليهودية إلى فلسطين».
بسقوط الدولة العثمانية ينتهى دور الحاخام فى تركيا «ليبدأ فصل جديد للأسرة العلوية التى كان لليهود فيها مكان ومكانة»، وتفرد المؤلفة فصلاً لمكانة يهود مصر بعنوان «يهود مصر.. وجود تاريخى»، وتستعرض خلال هذا الفصل مظاهر حضورهم فى المجتمع المصرى، سواء فى الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الفنية، فضلاً عن رعاية الدولة المصرية، «اتبع الملك فؤاد سياسة أخيه السلطان حسين كامل فى رعاية اليهود والتبرع للجمعيات والأعمال الخيرية الخاصة بالطائفة اليهودية، وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى هاجر عدد كبير من اليهود إلى مصر فرحبت بهم»، وحصل اليهود على مزايا المواطن المصرى آنذاك، وحمل نسبة منهم الجنسية المصرية.
وعندما انتقل ناحوم أفندى إلى مصر صدر له قرار من الملك فؤاد فى 1925، بتعيينه حاخاماً للطائفة اليهودية فى مصر، وبذلك يبدأ فصل جديد من حياته فى أجواء مهيأة ليلعب أدواراً جديدة، تزامناً مع تزايد الهجرة إلى فلسطين، ويستقر فى مصر إلى وفاته فى 1960، ويحظى بعلاقات قوية مع رموز السلطة فى عهد الملكية والجمهورية، ويمارس نفوذه الروحى على الطائفة.
يرصد الكتاب انقسام موقف الطائفة اليهودية فى مصر من الصهيونية آنذاك، وموقف ناحوم أفندى الذى ظل ملتبساً من الحركة، وهو موضوع من الموضوعات التى تهتم سهير عبدالحميد بإثارة الأسئلة حولها أكثر من تقديم إجابات. «لم أجد رأياً قاطعاً حول مواقف ناحوم أفندى من الصهيونية فى المراجع التاريخية أو قصاصات الصحف التى مدحته حيناً بوصفه زعيماً دينياً وطنياً يجمع الصف اليهودى وراء الدولة، سواء فى عهد الملكية أو الجمهورية، واتهمته حيناً بوصفه نموذجاً لما حوته بروتوكولات حكماء صهيون».
وتنبهنا المؤلفة إلى اختلاف معايير تقييم الصهيونية آنذاك عن معايير الوقت الحالى، وتدلل على ما ذهبت إليه برصد موقف المفكرين المصريين والعرب وكيف تمكن اليهود فى فلسطين من الاستيطان وخداع العرب باعتبار الصهيونية حركة سلام تدعو للعيش المشترك بين العرب واليهود على أرض فلسطين، موضحة أسباب عدم الوعى بخطورة الحركة الصهيونية آنذاك قائلة: «ما ساعد على الترويج لتلك الفكرة الماكرة هو أن الحركة الوطنية المصرية كانت غارقة فى قضية الاستقلال، التى لم تدع لها فرصة التفكير فى المحيط الجغرافى حولها».
ومن النقاط المهمة التى حرص الكتاب على التعرض لها رصد الموقف الفلسطينى، حيث تنبه الشعب مبكراً إلى خطورة تدفق الهجرة إلى فلسطين، ولجأ إلى الاستنجاد بالدولة العثمانية لمنع توغل اليهود، فيرصد موقفاً عدائياً من الصحفى الفلسطينى نجيب نصار، الذى تنقل بين القاهرة والقدس، مدافعاً بقلمه عن عروبة فلسطين، محذراً من خطورة الصهيونية وأسس فى عام 1908 من حيفا «جريدة الكرمل» وتنبأ بمغبة المصير الذى سيلاقيه العرب جراء هجرة اليهود المتزايدة إلى فلسطين.
الكتاب يجيب عن سؤال «كيف تمكنت طائفة اليهود من تأسيس دولة إسرائيل فى غفلة؟»
ولا تلتزم الكاتبة بالضرورة بالترتيب الزمنى للأحداث التاريخية، لكنها فى الوقت نفسه تلتقط الأحدث التى تدعم وتخدم الفكرة الأساسية، تجيب على تساؤل: كيف تمكنت طائفة اليهود من تأسيس دولة إسرائيل فى غفلة من الوعى العربى، لتصبح فى عقود محدودة شوكة فى خاصرة الجسد العربى، بعد «منح من لا يملك (الأرض) وعداً لمن لا يستحقها، فأصبح وعد بلفور المشؤوم 1917 كرة النار التى أحرقت الخارطة العربية بلهيب الحرب والقهر، وتوغلت الصهيونية فصار الباطل فى لمح البصر حقاً».
وفى إشارة من الكاتبة لتوضيح العوامل المساعدة فى نشأة الصهيونية تضيف: «وبعد انعقاد مؤتمر بازل بسويسرا فى أغسطس 1897 بنحو نصف قرن، زرعت قوى الاستعمار كياناً شيطانياً افترش الأرض الفلسطينية وعبأت سمومه سماء القدس».
وهكذا تمكنت المؤلفة، عبر صفحات الكتاب الـ344، من تسليط الضوء وتعميق مناطق كانت مسطحة من التاريخ ما زالت آثارها قائمة وممتدة إلى الوقت الراهن، وهى موضوعات ضرورية لفهم الواقع الإقليمى والصراع العربى الإسرائيلى وتطور أدوات القوى الاستعمارية والماسونية فى المنطقة العربية عبر سيرة حياة ناحوم أفندى الحاخام الأخير للطائفة اليهودية فى مصر، سواء خلال وجوده فى تركيا أو فى مصر.
استعانت المؤلفة بكم كبير من المراجع والصور والوثائق المتنوعة، كما تضمنت صفحات الكتاب هوامش لتوضيح الكلمات الملتبسة، بشكل يجعل الكتاب يتخطى تصنيف السير الذاتية أو الكتابة التاريخية الجافة، ويجعل منه عملاً بحثياً ومرجعاً مرموقاً يستحق الاطلاع عليه والرجوع إليه.
0 تعليق