عبر قرون من الهيمنة، غيّرت الإمبراطورية البريطانية وجه العالم، راسمة حدوداً جديدة ومؤثرة في الاقتصاد والسياسة والثقافة على نطاق هائل، وحتى بعد انهيارها، ما زالت آثار هذه القوة الإمبريالية تلقي بظلالها على المجتمعات الحديثة، مؤكدة عمق تأثيرها في تاريخ البشرية.
يستكشف ساثنام سانغيرا، الكاتب والصحفي المعروف، الإرث العالمي للإمبراطورية البريطانية، ويسلط الضوء على الطرق التي لا تزال تؤثر بها في الاقتصاد والسياسة والثقافة حول العالم.
في كتابه هذا يتابع سانغيرا، تحليله العميق لتأثير الإمبراطورية البريطانية الذي بدأه في كتابه الأكثر مبيعاً «إمبراطورية الأرض: كيف شكلت الإمبريالية بريطانيا الحديثة؟».
ويشير سانغيرا إلى أن 2.6 مليار شخص يعيشون في دول كانت تحت الاستعمار البريطاني، ما يعكس تأثير الإمبراطورية العميق في ربع سكان العالم آنذاك، بما فيها خارج حدودها. من انتشار المسيحية من خلال المبشرين إلى تشكيل القانون الدولي، كان للإمبراطورية البريطانية التأثير الكبير في النظم العالمية. حتى اليوم، يقود ثلث سكان العالم سياراتهم على الجانب الأيسر من الطريق، وهو أثر مباشر من آثار الإمبراطورية، مع ذلك، يشير سانغيرا إلى أن فهم البريطانيين لتاريخ إمبراطوريتهم يختلف بشكل كبير عن تجربة العالم مع هذا التاريخ.
ويستعرض سانغيرا كيف أسهمت الإمبراطورية البريطانية في تشكيل العالم الحديث بطرق متعددة، حيث يزور باربادوس، ليكشف كيف لا تزال دول الكاريبي تكافح للتغلب على آثار العبودية عبر المحيط الأطلسي، كما يعاين كيف أن المؤسسات الخيرية الكبيرة مثل «أنقذوا الأطفال» و«البنك الدولي» لا تزال تنظر إلى العالم بعيون إمبراطورية تعود إلى مؤسسيها الاستعماريين، ويستعرض المؤلف كيف يمكن تتبع عدم الاستقرار السياسي في دول مثل نيجيريا إلى التوترات التي نشأت من جذورهم الاستعمارية.
تأثير بريطاني عميق على البشرية
يكشف الكتاب الصادر حديثاً عن دار بابليك أفيرز للنشر ضمن 464 صفحة باللغة الإنجليزية عن دور الإمبراطورية البريطانية في نقل 12.5 مليون إفريقي خلال تجارة العبيد عبر «الأطلسي»، وكيف تسببت السياسات البريطانية في وفاة 35 مليون هندي جراء المجاعات، ويوضح سانغيرا أن الإمبراطورية البريطانية كانت مسؤولة عن بعض أكبر التغيرات الديموغرافية في تاريخ البشرية.
في الوقت الذي تواصل فيه الأنظمة الاقتصادية والقانونية والسياسية حول العالم العمل وفقاً للخطوط التي رسمتها الإمبراطورية البريطانية، تظل المعايير الثقافية والجنسية والنفسية واللغوية والتعليمية التي أنشأتها الإمبراطورية تشكل حياتنا حتى اليوم، وعلى الرغم من أن الإمبراطورية البريطانية بلغت ذروتها قبل قرن من الزمن وتم تفكيك معظمها بحلول عام 1997، يُظهر سانغيرا في هذا العمل الجديد كيف أن أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم لا تزال تمارس تأثيراً عميقاً في كوكب الأرض بطرق متعددة، سواء كانت صامتة أو صاخبة.
بناء على المعلومات الوافرة حول استمرار تأثير الإمبراطورية البريطانية في الهند، لا سيما في نيودلهي، يبرز الكتاب كيف أن نيودلهي بتصميمها ومعالمها التي خلفتها الإمبراطورية البريطانية، لا تزال تنبض بأجواء تلك الحقبة، على الرغم من مرور عقود على رحيل البريطانيين. يتجلى هذا التأثير في العمارة والتخطيط الحضري للمدينة، حيث تتناقض الجوانب المنظمة والهادئة لنيودلهي مع فوضى دلهي القديمة، ليعكس بذلك النفوذ البريطاني طويل الأمد.
يناقش الكتاب جهود التحديث والتجديد التي تشهدها الهند، خاصة فيما يتعلق ببناء البرلمان الجديد الذي يعكس الرغبة في التخلص من الإرث الاستعماري. تصميم البرلمان الجديد يعتمد على معماريين هنود، ويقف كرمز للسيادة الوطنية والانفصال عن الماضي الاستعماري، ما يعد خطوة بارزة نحو تأكيد الهوية الوطنية المستقلة.
الكتاب يستفيض في وصف كيفية حفاظ بعض الفنادق على سحرها الاستعماري والتجربة التي تقدمها لزوارها، ليشير إلى بقاء ذكريات الإمبراطورية حية في تفاصيل الحياة اليومية لمدينة مثل دلهي، إضافة إلى الدور الذي تلعبه في تعزيز السياحة والوعي التاريخي.
ويغوص الكتاب في استعراض الجهود المكثفة التي تبذلها الهند لإزالة الأسماء والرموز الاستعمارية، واستبدالها بأسماء ورموز تعبر عن الثقافة والهوية الهندية الأصيلة، مثل تغيير أسماء المدن والشوارع لتعكس النطق والمعاني المحلية، في إشارة إلى استرداد الفضاء العام وتأكيد السيادة الثقافية.
ويتناول الكتاب كيف تعاملت الهند مع الإرث اللغوي للإمبراطورية البريطانية، حيث تواصل الإنجليزية دورها كلغة عالمية رئيسية، لكن هناك محاولات مستمرة لتعزيز اللغات المحلية وإزالة الرموز الاستعمارية من الاستخدام الرسمي واليومي، مثل تغيير الأناشيد الوطنية وتعديل الرموز البحرية.
تسويق رسالة الجزيرة المتحضرة
يستعرض الكاتب أفكاره عبر مجموعة من الفصول التي تغطي مختلف جوانب هذا الإرث. يبدأ الكتاب بمقدمة بعنوان «التعرف إلى الإرث الاستعماري»، حيث يقدم سانغيرا لمحة عامة عن كيفية استمرار تأثير الاستعمار البريطاني في تشكيل العالم الحديث.
يتناول في الفصل الأول، «الجزيرة المتحضرة»، كيف أسهمت الإمبراطورية البريطانية في بناء صورة «الجزيرة المتحضرة»، حيث صورت بريطانيا نفسها قوة حضارية تحمل رسالة التنوير إلى مستعمراتها، بينما يركز الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان «النباتات المفيدة»، على كيفية استخدام الإمبراطورية للموارد النباتية من المستعمرات لتعزيز الاقتصاد البريطاني، مسلطاً الضوء على دور الاستعمار في نقل واستخدام هذه الموارد.
ثم يأتي الفصل الثالث، «مصدّرون بارعون للأشخاص»، ليناقش دور الإمبراطورية في تصدير البشر سواء من خلال الهجرة القسرية أو الطوعية، وكيف أسهمت هذه العملية في تشكيل التركيبة السكانية للعديد من الدول، يوضّح الكاتب في الفصل الرابع، «المنقذون البيض»، كيف روّجت الإمبراطورية لفكرة «المنقذين البيض» التي صوّرت البريطانيين كمنقذين للشعوب «البدائية» في المستعمرات.
ويتناول الفصل الخامس، «نظام قانوني عقلاني ومفهوم»، تأثير الإمبراطورية في الأنظمة القانونية في المستعمرات، وكيف أثرت هذه النظم في تشكيل الأنظمة القانونية المعاصرة في العديد من الدول، بينما يناقش الفصل السادس، «خط اللون»، التمييز العنصري الذي كان جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية البريطانية، وكيف استمر تأثيره في المجتمعات التي كانت تحت الحكم البريطاني.
ويستعرض الفصل السابع، «جني الفوضى»، الفوضى التي نتجت عن السياسات الاستعمارية البريطانية في مستعمراتها، وكيف استمر تأثير هذه الفوضى في الاستقرار السياسي والاجتماعي في تلك المناطق حتى اليوم.
ويختتم الكاتب عمله بخاتمة بعنوان «نتاج تطوري»، حيث يربط بين كل الفصول السابقة ليقدم استنتاجاته حول كيفية استمرار تأثير الإمبراطورية البريطانية في تشكيل العالم الحديث، معتبراً أن ما نراه اليوم هو نتاج تطوري للأحداث التاريخية التي استعرضها في الكتاب.
في الختام يمكن القول إن الكتاب يقدّم تأملات عميقة حول كيفية استمرار تأثير الإمبراطورية البريطانية في تشكيل المجتمعات الحديثة، ويستشرف الطرق التي يمكن للدول التي كانت تحت الحكم البريطاني أن تتجاوز تراثها الاستعماري، ولا شك أن الفهم والتعامل مع هذا الإرث قد يقود إلى إعادة تقييم شاملة للتاريخ والهوية الوطنية.
0 تعليق