نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صنع
في الصين, اليوم السبت 14 يونيو 2025 11:19 مساءً
في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيير الاقتصادي والتكنولوجي، تبرز الصين كقوة عالمية تتحرك بهدوء وثبات نحو مركز الصدارة العالمية. لم تعد عبارة «صنع في الصين» مجرد وسم على المنتجات الرخيصة كما كان الحال قبل عقود، بل أصبحت رمزا لتحول عميق في موازين القوى العالمية وشهادة على نجاح استراتيجية صينية طويلة المدى تعتمد على القوة الناعمة بدلا من المواجهات العسكرية المباشرة.
تكشف الأرقام الحديثة عن حجم العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة عن واقع اقتصادي لا يمكن تجاهله. فحتى مارس 2025، بلغت قيمة الواردات الأمريكية من الصين 102.6 مليار دولار، مقابل 31.8 مليار دولار من الصادرات الأمريكية إلى الصين، مما يعني عجزا تجاريا أمريكيا بقيمة 70.8 مليار دولار في الربع الأول من العام فقط. وعلى الرغم من الحرب التجارية والرسوم الجمركية المتبادلة والتوترات السياسية، إلا أن هذه الأرقام تعكس حقيقة الاعتماد الأمريكي المستمر على المنتجات الصينية، وتظهر قدرة بكين على الصمود والمناورة في وجه الضغوط.
لكن القصة الحقيقية للصعود الصيني لا تكمن فقط في حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، بل في استراتيجية عالمية متكاملة تمتد من الإبرة إلى الصاروخ، ومن أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. فمبادرة الحزام والطريق، التي أطلقتها الصين قبل أكثر من عقد، تجاوزت استثماراتها ومشاريعها تريليون دولار أمريكي، وامتدت إلى 150 دولة عبر 38 قطاعا اقتصاديا. وبحلول نهاية عام 2024، بلغ حجم المشاركة الاقتصادية الصينية في هذه المبادرة 1.174 تريليون دولار، منها 704 مليارات دولار في عقود البناء و470 مليار دولار في الاستثمارات المباشرة.
تتميز الاستراتيجية الصينية بالمرونة والتكيف المستمر، فبعد انتقادات دولية لمشاريعها الضخمة التي أثقلت كاهل بعض الدول بالديون، تحولت بكين نحو مشاريع أصغر وأكثر استدامة، حيث انخفض متوسط حجم الصفقة من 600 مليون دولار إلى أقل من 400 مليون دولار. كما شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في مشاركة القطاع الخاص الصيني، مع بروز شركات مثل BYD و Huayou Cobalt وCATL كأكبر المستثمرين في مبادرة الحزام والطريق خلال عام 2023.
لم تعد الصين تكتفي بكونها «مصنع العالم» للمنتجات منخفضة التكلفة، بل تحولت بثبات نحو قطاعات المستقبل: الطاقة الخضراء، والتكنولوجيا الرقمية، والمعادن الاستراتيجية، والذكاء الاصطناعي. وتعكس استثماراتها هذا التوجه، حيث بلغت استثماراتها في قطاع التصنيع التكنولوجي 22 مليار دولار، وفي قطاع المعادن والتعدين 30 مليار دولار، بينما وصلت استثماراتها في تصنيع البطاريات وتوليد الطاقة الخضراء إلى 13 مليار دولار و25 مليار دولار على التوالي.
لكن القوة الصينية لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى ما يعرف بـ»القوة الناعمة» - القدرة على التأثير والإقناع بدلا من الإكراه. وفي هذا المجال، حققت الصين قفزات نوعية خلال السنوات الأخيرة. فوفقا لمؤشر Brand Finance العالمي للقوة الناعمة لعام 2025، أصبحت الصين ثاني أقوى دولة في العالم من حيث القوة الناعمة، متجاوزة المملكة المتحدة وخلف الولايات المتحدة فقط. وارتفعت سمعة الصين إلى المرتبة 27 عالميا، صعودا من المرتبة 56 في عام 2021، مما يعكس نجاح جهودها متعددة الأوجه لتحسين صورتها العالمية.
هذا النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي المتزايد يترجم إلى نفوذ سياسي، فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لـ 91 دولة مشاركة في مبادرة الحزام والطريق في عام 2023، وتجاوزت تجارتها مع دول المبادرة 4 تريليون دولار في 2024. هذه العلاقات الاقتصادية المتشعبة تمنح بكين أوراق لعب متعددة في علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب عموما.
في المفاوضات التجارية الحالية مع واشنطن، تمتلك الصين ميزة الكثافة السكانية الهائلة التي تجعلها سوقا استهلاكية ضخمة لا يمكن تجاهلها. فمع أكثر من 1.4 مليار مستهلك وطبقة وسطى متنامية، وتمثل الصين فرصة هائلة للشركات الأمريكية، خاصة في قطاعات مثل المنتجات الزراعية والغذائية والسلع الاستهلاكية الفاخرة. وهذا يعني أن بكين لا تعجز عن فتح أسواقها للمنتجات الأمريكية إذا أرادت ذلك، لكنها تناور بحرفية تعكس العقلية الصينية التي تتسم بالصبر والتخطيط طويل المدى.
تشبه استراتيجية الصين في تعاملها مع الغرب سلاسة الماء على اليدين - مرنة ومتكيفة ومستمرة، لكن من الصعب الإمساك بها أو إيقافها. فبدلا من المواجهة المباشرة، تفضل بكين التغلغل الهادئ والمستمر في الاقتصاد العالمي، مستفيدة من قدرتها على التخطيط لعقود قادمة بينما تنشغل الديمقراطيات الغربية بدورات انتخابية قصيرة المدى.
لكن ما يميز النهج الصيني هو قدرته على التكيف والتعلم من الأخطاء. فبعد انتقادات «دبلوماسية فخ الديون» المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، عدلت بكين استراتيجيتها نحو مشاريع أكثر استدامة وشفافية. وبعد الانتقادات الموجهة لسياساتها البيئية، أصبحت الصين رائدة عالمية في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية. وحتى في مجال الدبلوماسية العامة، تحولت من النهج الهجومي المعروف بـ»دبلوماسية الذئب المحارب» إلى نهج أكثر اعتدالا يركز على بناء الشراكات والتعاون. ومن المتوقع أن تستجيب الصين للعقوبات التكنولوجية الجديدة بطرق مبتكرة، سواء من خلال تسريع جهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، أو من خلال تعزيز تعاونها مع دول أخرى غير خاضعة للنفوذ الأمريكي.
«صنع في الصين» لم تعد مجرد علامة على المنتجات، بل أصبحت رمزا لنموذج تنموي وحضاري بديل يتحدى الهيمنة الغربية التقليدية. نموذج يجمع بين قوة الدولة المركزية والديناميكية الرأسمالية، بين التخطيط طويل المدى والمرونة التكتيكية، بين الاستفادة من العولمة والحفاظ على الخصوصية الثقافية.
سواء أعجبنا ذلك أم لا، فإن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب تلعب فيه الصين دورا محوريا. والسؤال ليس ما إذا كانت الصين ستصبح قوة عظمى، بل كيف ستمارس هذه القوة، وكيف سيتكيف العالم مع صعودها. في هذا السياق، يصبح فهم استراتيجية «القوة الناعمة» الصينية وديناميكيات نفوذها الاقتصادي العالمي ضرورة استراتيجية لصناع القرار والمحللين والمواطنين العاديين على حد سواء.
0 تعليق