وانتصرت الأمهات!

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
وانتصرت الأمهات!, اليوم الأربعاء 19 مارس 2025 07:27 مساءً

تناقل الكثير من أفراد المجتمع مؤخرا عبارة "وانتصرت الأمهات" في مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، كناية عن استمرار ظاهرة غياب الطلبة في شهر رمضان المبارك رغم التوجيهات الرسمية والنداءات المجتمعية الداعية إلى الانضباط المدرسي والالتزام بالحضور اليومي!

قد يكون هذا التناقل لهذه العبارة هو من باب التسلية والضحك، إلا أنها تنبئ عن ظاهرة مؤرقة تحتاج إلى وقفة حازمة لدراستها ومعرفة مسبباتها؛ للتخفيف من آثارها ومعالجة حدتها، فالأمر لا يتعلق بطرف دون آخر، بل هي اختلال في ميزان ثقافة المنظومة بأسرها.

ومما يدل على تفاقم هذه الظاهرة وجود شواهد متفرقة بين صفوف المؤسسات التعليمية، فمثلا رأينا مقاطع مصورة لمعلمين وأساتذة جامعات وهم يؤكدون غيابا جماعيا للطلبة! وآخرون يؤكدون وجود غياب يومي طوال العام الدراسي.

هذا الغياب ليس منبعه فقط من الطالب أو أسرته، بل يجد أحيانا تأييدا وتحفيزا من قبل بعض الأساتذة والإداريين على اللحاق بركب الغائبين في مواسم محددة بحجة أن الغالبية لن تحضر، ومن أراد من أولياء الأمور أن يصارع الموج ويرسل ابنه ليعزز فيه الانضباط والتميز الدراسي، فمصيره غالبا أن يعود إلى منزله مبكرا دون أن يتعلم شيئا!

وشتان بين هذا الحال وحال الطلبة قبل سنوات حين كان الغياب أمرا مستبعدا، ومن اضطر إليه فهو متهمٌ في انضباطه حتى يُقبل عذره! ومن المفارقات أيضا ما أخبرني به أحد الأصدقاء المبتعثين في المملكة المتحدة عن إصرار ابنه على الذهاب إلى المدرسة رغم إحساسه بالمرض والتعب، وما ذاك إلا من حبه وتعلقه بمدرسته.

إن مشكلة الغياب المدرسي المزمن ليست بمشكلة جديدة، لكن حجمها قد تضاعف بعد جائحة كورونا، إذ أظهرت دراسة نشرتها (Attendance Works) أن نسبة الغياب المزمن في المدارس الأمريكية تجاوز 30% في العام الدراسي 2021-2022، مقابل 15% في العام الدراسي 2018-2019، مما يتطلب من الأطراف المعنية كافة جهودا مضاعفة للحد من آثار هذه الظاهرة المتفاقمة.

ربما يظن البعض أن الأمر يسير، وتغيب الطلبة أياما معدودة لا يضر ولن يحدث فارقا كبيرا! لكن الأمر جلل، ويحمل في طياته آثارا سلبية على الفرد والمجتمع، ولذا عدت وزارة التعليم الأمريكية هذه الظاهرة أزمة تعليمية خفية. من هذا المنطلق، نشأت العديد من الدراسات والمبادرات في دول متفرقة حول العالم لمواجهة هذه الأزمة التعليمية التي أطلق عليها لاحقا ظاهرة الغياب المزمن (Chronic Absenteeism)، ويقصد بها بلوغ نسبة غياب الطالب 10% من الأيام الدراسية في السنة الواحدة، أي نحو 15-18 يوما دراسيا، سواء كان هذا الغياب بعذر أو دون عذر.

بل إن الولايات المتحدة قامت في عام 2015 بتعديل قانون إلزام التعليم النظامي (No Child Left Behind Act) إلى (The Every Student Succeeds Act) لتعزيز الاستفادة من الجهود التعليمية المبذولة والأموال الوطنية المصروفة من خلال رفع نسبة نجاح الطلبة ومستوى تحصيلهم العلمي، بدلا من التركيز فقط على التحاقهم بالتعليم النظامي، وبموجب هذا التعديل أُلزمت المدارس الأمريكية برصد حالات الغياب المزمن وبذل الجهود اللازمة لتفاديها والقضاء عليها.

تظهر الدراسات البحثية على مر السنين ارتباطا ثابتا وعلاقة عكسية بين الغياب المدرسي والتحصيل العلمي، فكلما زاد غياب الطالب قلّ أداؤه الدراسي وإتقانه للعلوم الأساسية كالقراءة والرياضيات والعلوم الطبيعية. ووفقا لأبحاث أجرتها (Attendance Works)، وهي مبادرة غير ربحية لمواجهة هذه الظاهرة، وُجد أن التغيب المزمن في المراحل الدراسية الأولى يؤطر سلوك الطالب ومواظبته في بقية مراحله الدراسية، مما يؤثر بشكل سلبي على تحصيله العلمي ونتائجه الدراسية الحالية والمتعاقبة.

وهذا ما تؤكده التقييمات الوطنية الدورية لقياس التحصيل الدراسي لدى طلبة التعليم العام في الولايات المتحدة (NAEP)، فعلى سبيل المثال، حقق الطلبة المتغيبون في الصف الرابع مستوى أقل بمقدار 12 درجة في القراءة مقارنة بالطلبة المواظبين على الحضور، كما سجل الطلبة المتغيبون في الصف الثامن مستوى أقل بمقدار 18 درجة في الرياضيات مقارنة بالطلبة المواظبين على الحضور.

في دراسة بحثية أجريت على المدارس الحكومية في مدينة شيكاغو الأمريكية، وجد أن عدد أيام الغياب في الصف الثامن يعد مؤشرا قويا لنجاح أو فشل الطلبة في السنة الأولى من المرحلة الجامعية. كما أثبتت دراسة بحثية نشرت من قبل جامعة ميشيغان الأمريكية وجود علاقة طردية بين الغياب المدرسي وارتفاع نسبة التسرب الأكاديمي.

الأمر لا ينحصر على التحصيل الدراسي، بل يتجاوزه إلى غيره، فقد أظهرت دراسة بحثية قامت بها وزارة التعليم الأمريكية أن للغياب المزمن عواقب وخيمة على السلوك الشخصي، والصحة العقلية والجسدية، والدخل المالي للأفراد. كما نشرت جامعة أكسفورد البريطانية بحثا يؤكد أن للغياب المزمن آثارا سلبية على المجتمعات في المدى البعيد، إذ تؤثر الحالات الفردية في مجموعها مع مرور الوقت على رأس المال البشري، وبالتالي إلى نتائج متدنية في الأداء المهني والاقتصادي.

هذه الظاهرة المؤرقة لا يمكن القضاء عليها من خلال تعميم عاجل أو فرض أنشطة تقويمية، بل تحتاج إلى حلول استراتيجية ومبادرات شاملة يشارك في بنائها الأطراف كافة المعنية بالعملية التعليمية لتعزيز ثقافة المنظومة نحو الانضباط المؤسسي والتميز العلمي؛ فيهنأ الجميع ببيئة تعليمية جاذبة ومميزة لبناء مواطن معتز بقيمه ومنافس بقدراته.

moqhim@

أخبار ذات صلة

0 تعليق