الذكاء الاصطناعي.. فرصة للسلام أم رصاصة الحرب «الثالثة»؟

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. أيمن سمير

خلال العقود الخمسة الماضية سادت معادلة تقول: «إن الأمة والدولة المبتكرة» لا يمكن أن تخشى أو تقلق من «الدولة المقلدة»، وإن هناك فجوة كبيرة بين عالم الابتكار، وعالم التقليد، وتم تصميم هذه المقولة خصيصاً للصين، حيث تسابقت شخصيات أمريكية مرموقة أمثال هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة، وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي السابق للقول بأن الابتكار الأمريكي في مختلف المجالات التكنولوجية والعسكرية والطبية هو بمثابة «شهادة أمان وتأمين» للمكانة المتفردة التي تحظى بها الولايات المتحدة على المستوى الدولي، وهو ما يمنع - من وجهة نظرهم - أي صعود صيني ليصبح التنين الدولة المهيمنة في العالم، وبذلك تظل الولايات المتحدة هي «القطب الأول» عالمياً طوال القرن الواحد والعشرين اعتماداً على تفوقها في الابتكار.
لكن منذ يوم 20 يناير الماضي سادت حالة من الشك وعدم اليقين حول هذه الحسابات والتقديرات الأمريكية، وهو اليوم الذي سيتوقف التاريخ أمامه طويلاً كأحد أبرز الأيام التي سيكون لها القول الفصل في رسم معالم مستقبل التنافس الأمريكي الصيني نحو قمة القيادة العالمية، ففي 20 يناير الماضي حدث زلزال تكنولوجي واقتصادي غير مسبوق عقب الصعود المفاجئ للتطبيق الصيني «ديب سيك» Deep Seek، الذي تفوق على نظرائه من التطبيقات الأمريكية مثل شات جي بي تي، وسبب هذا الزلزال التكنولوجي ليس فقط في كفاءة التطبيق الصيني وكلفة تطويره الزهيدة مقارنة بالتطبيقات الغربية، بل لأن ديب سيك قادر بالفعل على إعادة «هيكلة النظام العالمي الجديد من منظور تكنولوجي واقتصادي»، فالاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكبر والأول عالمياً لـــفترة 155 عاماً متواصلة، أي منذ عام 1870، وكان يقوم على ركيزتين الأولى الكفاءة والثانية الابتكار، ومن منظور الكثيرين تنتقل هاتان الركيزتان وبسرعة من الغرب نحو الشرق، ومن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى الصين، حيث خسرت شركة إنفيديا الأمريكية «أكبر شركة في صناعة الرقائق» نحو 600 مليار دولار، وهي أكبر خسارة لشركة أمريكية في يوم واحد عندما دشنت الصين تطبيق «ديب سيك»، الأمر الذي دفع البعض للقلق من وقوع «فقاعة» في قطاع الذكاء الاصطناعي الأمريكي تقود لسحب تريليونات الدولارات التي تم ضخها واستثمارها في شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة بالولايات المتحدة، وهذه الخسائر تعكس مدى تأثر الاقتصاد الأمريكي بقدرة الشركات الصينية على الابتكار والمنافسة لكن بتكاليف أقل.
فهل تغيرت موازين القوى في الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة؟ وهل صعود ديب سيك يشكل عنواناً كبيراً للتفوق الصيني في المجالات العسكرية، وإعلاناً عن فشل الخطط الأمريكية لمحاصرة الصين تكنولوجياً؟ وهل الحسابات الصفرية هي فقط المسار المتاح بين واشنطن وبكين؟ أم يمكن لهذه المنافسة أن تفضي لطريق ثان يتعاون وينتصر فيه الجميع من أجل مصالحهم المشتركة واستقرار النظام العالمي سياسياً واقتصادياً؟
التنافس بهدف الفوز
وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صعود تطبيق ديب سيك بأنه جرس إنذار وتحد لشركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، خصوصاً أنه أطلق مبادرة الذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار بقيادة «أوبن أي آي» و«أوراكل»، تحت شعار المنافسة في الذكاء الاصطناعي بهدف الفوز، لكن الواقع يقول إن العامين الأخيرين شهدا تفوقاً صينياً عنوانه العريض هو الذكاء الاصطناعي، لكن تفاصيله كانت أكثر قلقاً لصانع السياسة الأمريكية، وأخذ شكل التنافس بين الولايات المتحدة والصين في الذكاء الاصطناعي مسارات وأشكالاً كثيرة منها:
أولاً: قاذفات استراتيجية
ففي ذكرى ميلاد الرئيس الصيني شي جين بينغ في ديسمبر الماضي، أعلنت الصين عن قاذفتين استراتيجيتين من الجيل السادس هما «جي إتش إكس إكس» و«جيه 36»، وهو تحد بالكامل لفخر الصناعات العسكرية الأمريكية «إف 35» التي تنتجها شركة لوكهيد مارتن، ففي الوقت الذي تطور الصين مقاتلات من الجيل السادس أعلنت الولايات المتحدة وقف تطوير مقاتلات الجيل السادس لأسباب مالية تتعلق بالتمويل، حيث تصل كلفة القاذفة الواحدة في النسخة الأمريكية من قاذفات الجيل السادس لنحو 300 مليون دولار، وكل التفاصيل تؤكد توظيف الصين للذكاء الاصطناعي لتحقيق هذه الطفرة بكلفة مقبولة، الأمر الذي أبهر الكثيرين بما فيهم شركات تصنيع القاذفات الأمريكية نفسها.
ولعل وصول الصين إلى تصنيع «طائرات مسيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي وأسرع من الصوت» كان صدمة كبيرة لمجمع الصناعات العسكرية الأمريكية الذي كان يعتقد لفترة قريبة أن جهد الصين ينصب فقط على «الطائرات المسيرة التقليدية» التي يتحكم فيها العنصر البشري، وليس الطائرات المسيرة التي يمكنها بواسطة الذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات بعيداً عن البشر، ومن هذه الطائرات المسيرة الصينية «إن دي 2، وأم دي 19، وأم دي 22»، وقبل كل ذلك أعلنت الصين عن إنتاجها لطائرة مسيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي تستطيع أن تحمل طناً كاملاً من المتفجرات، ومن يتابع الإعلانات الصينية المتتالية عن الذكاء الاصطناعي يتأكد له أن الصين استطاعت تحقيق مجموعة مختلفة من الأهداف عبر نجاحها وتفوقها في مجال التسليح الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يحقق لأول مرة «التوازن في العمليات العسكرية» في أي معركة مع الولايات المتحدة، وهو أمر كان مستبعداً بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين على الأقل.
ثانياً: معادلة جديدة وتطبيقات رخيصة
الصدمة التي أحدثها ديب سيك لا تتعلق فقط بكفاءته وتغلبه في بعض المزايا على تطبيق شات جي بي تي، بل في الكلفة الزهيدة للغاية، وهما عنوان للتطبيقات التكنولوجية الصينية في الذكاء الاصطناعي، ومن شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى «انهيار» الاقتصاد القائم على التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وانسحاب المستثمرين من شركات التكنولوجيا، وعدم الثقة في حجم التكاليف في هذه الشركات الأمريكية العملاقة، التي تأكد للجميع أنها تبالغ في تقدير قيمتها، وتحصل على أرقام فلكية من الاستثمارات، وهو ما يهدد بتحول كل هذه الاستثمارات إلى الصين التي لم تكتف بتطبيق ديب سيك بل أعلنت في نفس اليوم شركة علي بابا عن تطبيق جديد يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ومنذ يوم 20 يناير 2025 يتصدر تطبيق ديب سيك التطبيقات التي يتم تحميلها خاصة في الأسواق الآسيوية الشاسعة ومنها السوق الهندي الملياري، ويقول مطورو «ديب سيك» إنهم صمموا هذا النموذج مقابل 5.6 مليون دولار فقط، وهذا لا يساوي شيئاً من التكاليف الفلكية التي تتحدث عنها شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، فإحدى شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية أنفقت في عام 2024 نحو 5.5 مليار دولار لتطوير نموذجها في الذكاء الاصطناعي.
ثالثاً: فشل الحصار التكنولوجي
الإعلان عن تطبيقي ديب سيك وعلي بابا في يوم واحد يؤكد أن سياسة الحصار التكنولوجي الأمريكية والغربية، ومنع بيع الرقائق المتقدمة إلى الصين فشلت، وأن نهج التعاون أفضل من نهج فصل الاقتصادين الأمريكي عن الصيني كما كان يسعى الرئيس السابق جو بايدن، فها هي شركة ديب سيك تؤكد أنه تم تطوير تطبيقها باستخدام رقائق كمبيوتر أقل تقدماً وعدداً من تلك المستخدمة من قبل عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وقال فريق تطوير النموذج إن الرقائق الأكثر تقدماً ليست ضرورية لإنشاء نماذج عالية الأداء، وهو أمر يؤكد قدرة الشركات الصينية على الحصول على الرقائق بكميات كافية، وقدرة بكين على تجاوز العقوبات والقفز فوق التحديات والاستثمار بما هو متاح، ولهذا اعتمدت الصين على «التصنيع الذاتي» لمكونات الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية، والمثال الشهير على هذا الاعتماد على الذات هو نجاح شركة «هواوي» الصينية في استبدال أكثر من 13 ألف مكون من المكونات الداخلية في هواتفها المحمولة بدلاً من المنتجات الأمريكية، وديب سيك وغيره هو ثمرة لخطة الصين التي قامت على الاعتماد على الذات في المرحلة الأولى ثم منافسة الشركات الغربية والأمريكية وصولاً إلى الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، لذلك غالبية براءات الاختراع العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي كانت من نصيب الصين، والتي تصل لنحو 13 ألف براءة اختراع.
رابعاً: الرقائق وأشباه الموصلات
قامت الاستراتيجية الأمريكية في السنوات الأخيرة على سعي واشنطن لتوسيع «الفجوة الإلكترونية» مع الصين، فالولايات المتحدة كانت تخشى منذ فترة طويلة أن يأتي يوم مثل يوم ديب سيك.. وخطورة انعكاس هذا الأمر على التفوق التكنولوجي والاقتصادي والعسكري الأمريكي، لهذا أقر الكونجرس عام 2021 نحو 53 مليار دولار لتطوير شركات الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، وأسست واشنطن تحالفات دولية للرقائق الإلكترونية تضم دول الاتحاد الأوربي وكوريا الجنوبية واليابان وفيتنام وأستراليا لتضمن التفوق في قطاع الرقائق الإلكترونية، الذي وصل حجمه لنحو 500 مليار دولار عام 2022 ويتوقع أن يصل إلى 2 تريليون دولار عام 2030، وقبل رحيل ترامب في ولايته الأولى أدرج عام 2020 الشركات الصينية العاملة في تكنولوجيا الرقائق وأشباه الموصلات في «القوائم السوداء» بهدف تعميق الفجوة التكنولوجية» بين البلدين، وهو أمر ردت عليه الصين بتخصيص نحو 155 مليار دولار للذكاء الاصطناعي وصناعة الرقائق ودعم الابتكار، وكلها عوامل مرتبطة بالذكاء الاصطناعي حتى لا تكون الصين تحت الضغوط الأمريكية المتفق عليها بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لأن هناك اتفاقاً بين الجميع في العالم بأن من يسيطر على سوق وصناعة الذكاء الاصطناعي سوف تكون له الغلبة الاقتصادية والعسكرية وحتى الثقافية والعلمية، لأن التفوق في الذكاء الاصطناعي «بات هو المعيار الجديد لقدرة كل طرف على فرض «إرادته السياسية والعسكرية» في المستقبل، خصوصاً مع تحذير مارك روبيو في جلسة تثبيته كوزير للخارجية بأنه إذا لم يتم تحجيم حصول الصين على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي فإنه بحلول عام 2035 سوف تنجح الصين في تصنيع وتخزين 1500 رأس نووية.
مساران جديدان للمواجهة
ردة الفعل العصبية من جانب الولايات المتحدة على نجاح تطبيق ديب سيك، واتهامه في البداية بسرقة معلومات أمريكية يؤكد مدى خطورة المنافسة في الذكاء الاصطناعي، واحتمالية انزلاق المنافسة إلى دائرة الحروب والصرعات، وهو ما يقول إن العالم أمام مسارين وهما:
أولاً: الصراع الصفري
بمعنى أن كل طرف يريد أن يحصل على كل شيء دون أن يمنح الطرف الآخر أي شيء، ويمكن السير في هذا المسار عبر الأدوات الخشنة مثل الحصار التكنولوجي وخوض الحروب العسكرية، فكل طرف يسعى لتأكيد سيادة وهيمنة نموذجه من الذكاء الاصطناعي بما يعزز قدرته وهيمنته الاقتصادية والسياسية والعسكرية على العالم، فالولايات المتحدة كانت تسعى مع حلفائها إلى بناء نموذج في الذكاء الاصطناعي لا يقتصر فقط على الدول الغربية، بل نشره وتعميمه في كافة أرجاء المعمورة، وظهور التطبيقات الصينية يحرم واشنطن من هذه الفرصة التي يمكن أن تكون في ذات الوقت بمثابة إعلان عن انتقال الهيمنة التكنولوجية من الغرب للشرق.
ثانياً: تعزيز السلام

وهو مسار يدعو إلى وجود مساحة من العمل المشترك من أجل السلام العالمي بين الصين والولايات المتحدة بما يساعد على مكافحة الجريمة والقرصنة والحفاظ على الأرض من الهلاك، على سبيل المثال هناك دعوة أطلقها الرئيس بايدن قبل رحيله عن البيت الأبيض يدعو فيها لعدم «تحكم الذكاء الاصطناعي» في الأسلحة النووية في أي دولة من دول النادي النووي، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التقليل من الفجوات المعرفية تجاه الآخر بما يعزز الفهم العالمي لمصالح واحتياج كافة الشعوب والثقافات، الأمر الذي يقود في النهاية لمنع الحروب وتفاقم الصراعات.
هناك أبعاد جديدة يمكن توظيفها في الذكاء الاصطناعي لتحقيق السلام ومنع وقوع الحرب ومنها على سبيل المثال توظيف الذكاء الاصطناعي لجمع كمية هائلة من المعلومات والبيانات والتقارير الاستخباراتية وخلاصات مراكز الأبحاث كمساهمة في رفع كفاءة القرارات الخاصة بالحرب وعدم الاندفاع نحو مغامرات عسكرية كثيراً ما جاءت نتيجة لحسابات خاطئة أو قصور في المعلومات أو خلل في التفسير.
المؤكد أن كل خطط فصل الاقتصاد الأمريكي عن نظيره الصيني لم تفلح، فالتحدي الحقيقي هو كيفية الحفاظ على الأمن والسلام العالمي، وتستطيع الولايات المتحدة والصين العمل معاً من أجل تعزيز الظروف التي تساعد تطبيقاتهما التكنولوجية على دفع النمو الاقتصادي وتحقيق الرفاهية والازدهار للجميع، وهو ما يقتضي التعاون بين القطبين الكبيرين في مجال الذكاء الاصطناعي للحد من الخلافات والصراعات اعتماداً على مبدأ رابح رابح، وليس «أنا ومن بعدي الطوفان» أو إطلاق شرارة الحرب العالمية الثالثة التي قد تبيد البشرية.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق