إعداد ـ محمد كمال
لا تأتي حالة الذهول التي صاحبت مقترح دونالد ترامب، بسيطرة الولايات المتحدة على غزة بعد إخراج الفلسطينيين منها، من عدم معقوليته فقط، لكن أيضاً لما يتضمنه من تناقضات فجة مقارنة بتعهدات الرئيس الأمريكي الأخرى، فضلاً عن كونه يمثل نسفاً لعقود طويلة من السياسات الأمريكية، لدرجة أن بعض المراقبين قالوا بسخرية إنها ليست فكرة خارج الصندوق؛ بل تشكك في مدى علم ترامب بوجود صندوق من الأساس، وإن كان من الواضح أنه يتعامل مع هذا الملف شأنه شأن ملفات أخرى بعقلية المطور العقاري لا الرئيس، كسابق عهده.
ويمثل مقترح ترامب بالسيطرة الأمريكية على غزة، سياقاً وصفه مؤرخون بمحاولته إعادة رسم خريطة العالم وفقاً لتقاليد استعمار القرن التاسع عشر، حيث يطالب أيضاً بالسيطرة على جزيرة غرينلاند التابعة لمملكة الدنمارك، ثم ضم كندا، واستعادة قناة بنما، وإعادة تسمية خليج المكسيك، تحت وابل من الإغراءات بالشراء أو المشاريع أو حتى بفرض العقوبات الاقتصادية إذا لم يتمكن من عقد الصفقة التي يريدها.
ـ كواليس المقترح ـ
● يقول اثنان من مسؤولي إدارة ترامب إن فكرة الاستيلاء على غزة تشكلت مؤخراً، حيث أدارها الرئيس من قبل مساعدين وحلفاء في الأيام الأخيرة. وقال مسؤولون آخرون في الإدارة يعملون في قضايا الشرق الأوسط إن الاقتراح تم تبنيه بشكل وثيق. ولم يكن المسؤولون من خارج الدائرة الداخلية لترامب على علم بأن الفكرة كانت مطروحة على الطاولة خلال أيام التخطيط للاجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ـ مقترح ترامب أذهل حتى بعض أكثر مؤيديه حماسة وتأثيرا في المجتمع اليهودي، ووصف أحد جامعي التبرعات لترامب، وهو من المؤيدين البارزين لإسرائيل، الفكرة بأنها «مجنونة» وتساءل عن كيفية تنفيذها، مشيراً إلى أن هذا النوع من السياسات من المرجح أن يستغرق أكثر من عام حتى يكتمل مع وجود الكثير من المتغيرات غير المعروفة حتى يتم تنفيذها بسلاسة.
ـ عقلية المطور العقاري ـ
● كثيراً ما يتحدث ترامب عن السياسة الخارجية من منظور عقاري، كما فعل في حملة لجمع التبرعات مؤخراً في إشارة إلى قراره عام 2019 بتأييد السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، حيث قال: «هكذا فعلت مرتفعات الجولان. قالوا إن هذه القطعة تبلغ قيمتها تريليوني دولار، إذا تم تقديرها من الناحية العقارية».
● في أواخر الصيف الماضي، أخبر ترامب نتنياهو في مكالمة هاتفية أن قطاع غزة هو قطعة رئيسية من العقارات وطلب منه التفكير في أنواع الفنادق التي يمكن بناؤها هناك، وفقاً لشخص مطلع على المحادثة مباشرة، كما وصفها بـ«الموقع الاستثنائي على البحر»، لكنه لم يذكر مسألة استيلاء الولايات المتحدة عليها.
● استخدام ترامب وصف «ريفييرا الشرق الأوسط» حال استيلاء الولايات المتحدة عليها، أعاد إلى الأذهان تصريح صهره جاريد كوشنر عندما وصف قطاع غزة العام الماضي بأنه واجهة بحرية عقارية «قيمة»، لكن لا يبدو أن المستشار الرئاسي السابق كان يلمح لإجبار الفلسطينيين على الخروج بشكل دائم أو سيطرة أمريكية.
ـ غرابة الطرح دفعت محللين إلى القول إن ترامب يتعامل مع ملف غزة ليس بصفته رئيساً لأمريكا، لكن بصفته مطوراً عقارياً يؤمن بالصفقات، بغض النظر عن أي أبعاد سياسية أو تاريخية أو حتى قانونية؛ بل قال بعضهم إنه ينظر لهذا القطاع المدمر حالياً باعتباره «غزة لاغو»، نسبة إلى منتجعه مارالاغو، في بالم بيتش بولاية فلوريدا.
ـ أوكرانيا وكوريا الشمالية أيضاً ـ
●المقترح تماماً هو ما فعله عندما أخبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هذا الخريف أن أوكرانيا ستكون مكاناً جيداً للتنمية العقارية، لا سيما مدينة أوديسا، حسبما قال أحد الأشخاص الحاضرين أثناء المناقشة، وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال.
●كما قدم ترامب حالة مماثلة للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون خلال فترة ولايته الأولى، على أمل أن تشجع جاذبية الفنادق والتنمية على طول سواحل كوريا الشمالية زعيم البلاد على تفكيك ترسانته النووية.
●تقول نانسي عقيل، رئيسة مركز السياسة الدولية، لصحيفة التليغراف، إن اقتراح ترامب يعكس أفكاراً من «أحلك فصول التاريخ». وأضافت: «من غير المعقول أن يقوم رئيس للولايات المتحدة بالترويج للتهجير القسري للسكان والاستيلاء على الأراضي في القرن الحادي والعشرين».
ـ انقلاب على وعوده الانتخابية ـ
●من حيث التناقضات، فإنه على الرغم من إبداء ترامب دعمه المستمر والدائم لإسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، فقد وعد خلال حملته الانتخابية بإحلال السلام في المنطقة ووقف الحرب المستمرة منذ شهور، لكن اقتراحه بالسيطرة الأمريكية على غزة قد يشعل بالفعل حرباً أشد خطورة تكون الولايات المتحدة طرفاً مباشراً فيها.
● كان من اللافت أيضاً، أن مئات الآلاف من الناخبين الأمريكيين الذين يدعون إلى السلام في غزة، دعموا ترامب في الانتخابات الرئاسية، لاعتراضهم على عدم التعامل الصارم من سلفه جو بايدن ونائبته كامالا هاريس مع العنف الإسرائيلي المدمر واستخدام استراتيجية العقاب الجماعي في قطاع غزة، لكن ترامب قفز خارج كل ذلك بدعوته إلى التهجير الكامل لأهالي غزة، وسيطرة أمريكا على القطاع، لتحويله إلى ما وصفه بـ«ريفيرا الشرق الأوسط».
● تساءل عدد من المراقبين بشأن ماذا لو كان ترامب قد عرض مثل هذا المقترح أثناء الحملة الانتخابية، وهل كان نشطاء السلام في الولايات المتحدة سيحاولون تعكير صفو تجمعات منافسته كاملا هاريس أم كانوا سيتظاهرون احتجاجاً خلال مؤتمراته هو؟ وهل كانت مدينة ديربورن على سبيل المثال ذات الأغلبية العربية، بولاية ميشيغان، ستحشد لانتخاب ترامب وفي جميع أنحاء البلاد؟
● في وقت يسعى ترامب إلى ترحيل ملايين المهاجرين من الولايات المتحدة، بدعوى أن وجودهم غير شرعي، فإنه يناقض نفسه حالياً، بطلبه من بعض الدول استقبال الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم من أراضيهم، حتى تسيطر عليها أمريكا، ومن مفارقات هذا التناقض أن بعض الأصوات المعارضة في الولايات المتحدة، طالبت ترامب إذا كان مقترحه عقلانياً أن تستقبل أمريكا هؤلاء المهجرين المحتملين، وأعدادهم تقارب حوالي مليوني فلسطيني، ومنحهم ملكيات مقابل سيطرته على أراضيهم، وذلك على اعتبار أنهم سيقبلون أصلاً بترك غزة.
● ومن بين ما أشار إليه محللون أن ترامب لا يمكنه إيجاد أي مسوغ قانوني يسمح للولايات المتحدة بفرض سيطرتها من جانب واحد على غزة أو الإبعاد القسري لسكانها بالكامل، وهو ما يمثل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، فضلاً عن أن إعادة توطين مليوني فلسطيني سوف يشكل تحدياً لوجستياً ومالياً هائلاً، وقبل كل ذلك فإنه مقترح سياسي قابل للانفجار في أي لحظة.
● كثيراً ما هاجم ترامب الوجود العسكري الأمريكي في الخارج؛ بل واتهم أسلافه بإهدار أموال دافع الضرائب الأمريكي في صراعات لا طائل منها، لكنه الآن يقدم مقترحاً قد يكلف بلاده الكثير خصوصاً في ظل الحاجة إلى نشر آلاف الجنود والعتاد في الشرق الأوسط، في انقلاب مذهل للرئيس الذي ترشح لأول مرة عام 2016 متعهداً من وقتها بإخراج الولايات المتحدة من صراعات الشرق الأوسط.
● فكرة الاستيلاء على غزة من شأنها أن تدخل الولايات المتحدة في قلب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة حاول الرؤساء منذ عهد هاري ترومان تجنبها. ولطالما زودت واشنطن حليفتها إسرائيل بالسلاح ودعمتها دبلوماسياً وحاولت التوسط في اتفاقات السلام. لكن الرؤساء الأمريكيين أحجموا عن نشر قوة كبيرة في المنطقة، حتى عندما نصبت أمريكا رصيفاً عائماً مؤقتاً لإيصال المساعدات لغزة تأكدت إدارة بايدن من ضرورة عدم وجود قوات على الشاطئ ثم فككته بعد فترة وجيزة.
ـ هل توقعها نتنياهو؟ ـ
● لم يكن من الواضح ما إذا توقع نتنياهو خطة ترامب أو سمع عنها قبل المؤتمر الصحفي المشترك بالبيت الأبيض، لكنه ابتسم بارتياح عندما تحدث الرئيس الأمريكي عن تطهير غزة بشكل دائم من جميع الفلسطينيين، وهو عمل لم تجرؤ عليه إسرائيل نفسيها. ثم قال نتنياهو إن الاقتراح «يمكن أن يغير التاريخ» وأنه يستحق «المتابعة»، من دون التأييد الصريح للفكرة، بينما هلل اليمين الإسرائيلي المتطرف للفكرة واعتبرها رائعة.
●يرى مراقبون أنه مع الضجة التي أثارها ترامب حول غزة، فإن اجتماعه مع نتنياهو، فقد الهدف الأساسي منهن والذي يتمثل في الضغط لإنجاح المرحلة الثانية من اتفاق السلام بين إسرائيل وحماس، ويبدو أن نتنياهو بدا مرتاحاً لذلك، فقد منحه اقتراح ترامب حرية كبيرة في التعامل كيفما يشاء مع ملف غزة من دون أي ضغط أمريكي محتمل.
● من المرجح أيضاً أن يؤدي مقترح ترامب إلى تصعيد المواجهة بين حماس وإسرائيل، وقد يهدد ذلك بنسف إتمام صفقة تبادل الرهائن، حيث يعتمد اتفاق الإفراج المرحلي بشكل كامل على الحفاظ على الثقة والزخم الدبلوماسي بين الطرفين.
0 تعليق